رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

في الذكرى الخمسين لرحيل عميد الأدب العربي.. طه حسين وموقفه من القضية الفلسطينية (1-2)

410

في كتابي «طه حسين: تجديد ذكرى عميد الأدب العربي» (صدر في أبريل 2021) عقدتُ فصلًا طويلًا لمناقشة الاتهامات الباطلة التي رددها -ولا يزال يرددها- البعض للأسف حول طه حسين وموقفه من القضية الفلسطينية، استنادًا إلى تأويلات منحرفة وقراءات مشوهة وتفسيرات غير دقيقة لمواقف ونصوص بل ولرسائل علمية وأطروحات أكاديمية مشرفة ومرجعية وإصدارات ثقافية ونصوص ومقالات.. إلخ. وقد كنت حريصًا على استقصاء أطراف المسألة من اتهامات وردود من واقع النصوص وحدها ولا شيء آخر، وكان المصدر الأول والأهم في استقصاء هذه المسألة نصوص طه حسين نفسه، ومواد مجلة (الكاتب المصري) التي ترأس تحريرها خلال الفترة من 1945 وحتى 1948 (وهي السنة التي وقعت فيها النكبة) فضلاً على المواد والمقالات والدراسات التي تعرضت لبحث هذه القضية من قريب أو بعيد.

إيهاب الملاح

يمكن حصر أطراف القضية كلها فى دعوى وردِّها أو اتهامٍ وتفنيده.

يمثل طرف الادعاء فى حالتنا هذه أستاذة إعلام جليلة وقديرة، لكنها للأسف تورطت فى ترديد الدعوى وكررتها وألحت فى تكرارها عبر ما يزيد على الثلاثين سنة فى أكثر من عمل ومؤلف لها، كان آخرها كتابها الصادر
فى 2017 بعنوان كتاب «الاختراق الصهيونى لمصر من 1917 حتى 2017»، وقبل هذا الكتاب (أو بعده بقليل) صدر لها كتاب آخر بعنوان «اليهود المصريون والحركة الصهيونية» عن دار الهلال، رصدت فيه بحسب ما تقول دور مجلة «الكاتب المصري» (1945-1948)، فى الترويج للحركة الصهيونية، وبنت دعايتها كلها على أفكار من قبيل الخلط الفاحش بين اليهودية كديانة وعقيدة والصهيونية كحركة سياسية استعمارية أيديولوجية.

وذكرت فى معرض تدليلها على تلك التهم، كيفية استخدام الحركة الصهيونية للمجلة، قائلة: “عندما أقبلت الأربعينيات وأصبح تحقيق الوطن القومى اليهودى فى فلسطين قاب قوسين أو أدنى وانكشف تمامًا حقيقة الصهيونية أمام أعين الرأى العام العربى والمصري، من خلال الصدامات الدامية التى وقعت بين الحركة الوطنية الفلسطينية فى مواجهة الحركة الصهيونية المدعومة بالمساندة البريطانية، حينئذ أصبح لزامًا على الحركة الوطنية الصهيونية أن تعيد النظر فى أساليبها الدعائية، وتحاول استحداث أساليب جديدة تتلاءم مع متطلبات المرحلة التى كانت تستلزم مواصلة تجنيد الطاقات البشرية لليهود المصريين؛ لتحقيق الهدف الاستراتيجى للصهيونية”.

وتابعت: “من أجل إنجاز هذا الهدف بدأت الحركة الوطنية الصهيونية، فى العمل على أسلوب دعائى جديد، يتلخص فى إصدار مجلة مصرية ذات طابع ثقافى ضمت نخبة من كبار المفكرين والمثقفين المصريين وبتمويل يهودى صهيوني، وهى مجلة «الكاتب المصري» التى صدرت فى أكتوبر عام 1945، وكان يرأس تحريرها طه حسين، وتعرضت المجلة لحملة عنيفة من جانب بعض الصحف المصرية مثل “مصر الفتاة” وغيرها، موجهين اتهامات إليها بالخضوع للسيطرة الصهيونية، وأن الهدف من إصدارها هو العمل على استقطاب المثقفين المصريين لصالح الحركة الصهيونية من خلال شراء صمتهم إزاء الصراع العربى الصهيونى فى فلسطين”.

وبمثل هذه الاستنتاجات العجيبة والافتراضات المعلقة فى الهواء بَنَتِ الأستاذة القديرة دعايتها واتهامها المهين لواحدٍ من أهم وأكبر العقول المصرية والعربية فى العصر الحديث، بل إنها زادت وقررت أن تعمم هذا الاتهام الباطل على معظم أو كل رواد النهضة الفكرية والثقافية المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين (لطفى السيد، محمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق وعلى عبد الرازق.. إلخ)

ثم تواترت الأصداء واتسع نطاقها التى نتجت عن نشرها هذا الكتاب (منذ 2017)، وتمسك البعض من دون مراجعة ولا تحقيق ولا عودة إلى نصوص طه حسين المثبتة فى مقالاته وكتبه وافتتاحياته لمجلة «الكاتب المصري» بترديد المقولات التى أوردتها الدكتورة عواطف عبد الرحمن من دون تثبت ولا تحقيق..

ولغاية تاريخ صدور كتابى فى أبريل 2021 (وقد حررتُ الفصل الخاص بالرد على الاتهامات فى 2017) لم أكن اطلعت على الدراسة الوافية الممتازة التى كتبها الناقد الفلسطينى الراحل محمد دكروب ونشرها فى العدد (74/ 75) من مجلة دراسات فلسطينية (ربيع/ صيف 2008)

وهى دراسة نصية تحليلية وافية تعتمد على نصوص ومقالات مجلة «الكاتب المصري» التى صدرت خلال الفترة 1945 وحتى 1948 وكان رئيس تحريرها خلال تلك الفترة الدكتور طه حسين (وللصديق العزيز سليمان المعمرى فضل لفت انتباهى إلى هذه الدراسة الممتازة فى مقاله الوافى عن طه حسين والقضية الفلسطينية المنشور فى عدد جريدة عمان، بتاريخ 28 أكتوبر 2023).

فى هذه الدراسة يفند الكاتب الشبهات التى أحاطت بطه حسين بشأن قبوله ترؤس تحرير مجلة «الكاتب المصري»، وهى مجلة كانت تملكها عائلة هرارى اليهودية المصرية. وقد انزلق بعض النقاد وأساتذة الإعلام غير المدققين إلى ترويج كلام وشائعات عن أنه خدم الصهيونية ربما من غير أن يدري، وأن هذه المجلة أدارت ظهرها للقضية الفلسطينية، ولم تتناول أحداثها قط. وقد كرس دكروب مقالته الوافية كلها لتفنيد هذه الشبهات والشائعات استنادًا إلى نصوص المجلة نفسها؛ فهى دراسة توثيقية تحليلية تنير هذا الالتباس، وتكشف الكسل الثقافى لبعض النقاد والأكاديميين وقصورهم عن توخى الدقة فى هذا الأمر بالتحديد.

وعمومًا ودون أن أعيد وأزيد فيما طرحته الدكتورة عواطف عبد الرحمن فى كتابها -وهو متاح ميسور لمن أراد مطالعته- فإنها ببساطة تُقيم كتابها على خلط بيّن وفادح بل “فاضح” بين مفهومين ينبغى الفصل بينهما تماما وهما مفهوما “يهودي” و”صهيوني”؛

وكل ما فى كتابها أو غيره من فرضيات وطروحات ونتائج مبنى على هذا التماهى والالتباس بين المفهومين، ومن ثم صار أى تعامل أو اتصال مع “يهود” سواء كانوا مواطنين مصريين أو غيرهم، يعنى ببساطة تعاملًا مباشرًا وتطبيعًا مجرمًا مع الصهيونية والصهاينة، وسواء كان هذا قبل النكبة بشكل مباشر عام 1948 أو بعدها! وبناء عليه، فقد رددت الدكتورة عواطف عبد الرحمن بحس زاعق كل ما سبق تكراره من اتهامات باطلة -أكرر باطلة- فى حق صفوة من كبار المثقفين المصريين، وضمنهم بل أهمهم الدكتور طه حسين.

ببساطة، مشكلتى مع مثل هذه الكتابات -فى ما أتصور- فى المنهج الخاطئ الذى يعتمده أصحابه، وهو منهج يعتبر كل يهودى “صهيونيا”، فضلًا على اعتماد “نظرية المؤامرة” بشكل قاطع وحتمى وطفولى للغاية، ومن ثم التعامل مع كل “يهودي” أيا ما كان وأينما كان باعتباره “مجرما متآمرا عميلاً إرهابيًا”!! هذا المنطق نفسه -هو هو- الذى يعتبر كل مسلم أيا ما كان وأينما كان “إرهابيًا قاتلاً دمويًا” باعتبار أن كل المسلمين «دواعش» أو “طالبان” أو “نُصرة” أو …إلخ أليس هو المنطق ذاته؟! أليس هو التطرف بعينه! هذه واحدة!

والثانية.. أن اعتماد هذا النهج يؤدى منطقيا إلى إنكار ونكران أى نتاج علمى فنى حضارى فكرى قدمه “يهود” فقط لأنهم يهود! وهذا تناول عنصرى وغير سليم؛ ولا يخدم أى قضية لا قومية ولا عربية، بالإضافة إلى أنه ينتهى إلى نتائج غير صحيحة بالمعنى العلمى المنهجي. فليس معقولا ولا مقبولا أن يكون كل يهودى “صهيونيا” لمجرد أنه “يهودي”، كما أن الاقتصار على الهوية الدينية وحدها للشخص، أيا ما كان تخصصه لا يصلح لتفسير شامل وموضوعى فى بحث الظواهر العلمية والإنسانية. ولا أجد فارقا بين من يختزل الصراع العربى الفلسطينى فى جانبه الدينى وحده، وبين من يختزله فى جانبه العنصرى وحده!!

كلاهما -فيما أظن- على خطأ..

وأنا هنا أكرر ما ذكره الكاتب والباحث المعروف أيمن الصياد بوضوح ودون لبس حينما قال: “إلى المزورين الذين يبحثون فى القرآن دفاعًا عن حق الإسرائيليين فى فلسطين: «إسرائيل» النبى ليس إسرائيل الدولة. «واليهودية» الديانة ليست “الصهيونية” كعقيدة سياسية. مشكلتنا «سياسية» مع إسرائيل (الدولة المحتلة) لا مع إسرائيل/ يعقوب (النبي)، ومع الصهيونية لا مع اليهودية”.

إن أبسط مراجعة لتراث كبار المثقفين المصريين المعتبرين، فى النصف الأول من القرن العشرين، يؤكد أنهم كانوا ينطلقون من هذه التفرقة الحاسمة بين “اليهودية” و”الصهيونية”؛ لأن اليهود قبل قيام دولة إسرائيل كانوا يعيشون فى كثير من الأقطار العربية لهم نفس الحقوق‏،‏ وعليهم نفس الواجبات.

وفى رأى طه حسين (الذى اتهمته الدكتورة عواطف عبد الرحمن بممالأة الصهيونية)، فإن أوروبا قد جَنَت عليهم حينما أحالت مشروعهم إلى “مشروع سياسي” استهدف قتل الفلسطينيين وتشريدهم من بلادهم، وزرع وطن خاص باليهود فى أرض فلسطين العربية‏، التى كانت قبل قيام الدولة اليهودية نُموذجًا للتسامح بين كل الديانات والأعراق‏، وكانوا جميعًا يرون أن اليهود كانوا يعيشون فى كثير من الأقطار العربية، قبل مأساة فلسطين، كجماعاتٍ لها كامل حقوقها السياسية والاجتماعية والدينية، ومراجعة تاريخ اليهود فى بلدان كثيرة منها مصر والمغرب، مثالا، يؤكد هذا الكلام.

ومن الأمور التى استغربتُ لها واندهشتُ منها أن الدكتورة عواطف عبد الرحمن قد أغفلت -مثلا- الرجوع إلى الكتاب القيّم الذى كتبه حلمى النمنم، الباحث التاريخى المعروف، ووزير الثقافة الحالي، بعنوان «طه حسين والصهيونية»، الصادر عن سلسلة كتاب الهلال فى سبتمبر 2010! أى منذ ما يقرب من ثلاث عشرة سنة كاملة (حين صدور كتاب الدكتورة عواطف كان قد مضى على صدور كتاب النمنم سبع سنوات)؛ أى أنه ليس حديثَ الصدور ولا قديمًا للدرجة التى يمكن أن يغفل عنه باحثٌ جاد، فضلًا على أن يكون متخصصًا راسخًا فى مجاله!

ولا بد هنا فى معرض استقصاء موقف طه حسين من القضية الفلسطينية عرض أهم ما اشتمل عليه كتاب الباحث القدير حلمى النمنم (وزير الثقافة الأسبق) لأنه ببساطة يُدحض ويهدم وينقض تمامًا كل ما رددته الدكتورة عواطف عبد الرحمن فى كتابها؛ خاصة فى الجزء الخاص بالمثقفين المصريين، وفى المجتزأ الذى أوردتْه بشأن طه حسين!

وكذلك لا بد من عرض بعض الاستشهادات النصية الممتازة (أكرر الممتازة) التى أوردها الناقد والمفكر الفلسطينى الراحل محمد دكروب فى المقالة التى ألمحنا إليها فى مطلع هذا المقال، وهو فيما أورده من نصوص مجلة «الكاتب المصري» ومقالاتها وموادها الشهرية يدحض بالدليل ما قالته الدكتورة عواطف عبد الرحمن فى كتابها من أن:

“قد ثبت من متابعة أعداد المجلة تجاهلها للقضية الفلسطينية فى الوقت الذى بلغت الصدامات العربية الصهيونية ذروتها فى فلسطين، ولم تخل صحيفة مصرية من متابعة هذه الاحداث بشتى ألوان الكتابة والتغطية الصحفية”، و”نلاحظ أن مجلة «الكاتب المصري» كانت تخوض فى مختلف القضايا السياسية المعاصرة؛ بدءًا بمشكلة المضايق التركية ومستقبل آسيا بعد هزيمة اليابان والثورة الدامية فى مالاجاش “جزيرة مدغشقر”، وذلك فى إطار باب ثابت أطلقت عليه اسم “شهرية السياسة الدولية”، وكان مخصصًا لمتابعة الشئون والأحداث العالمية وكانت لا تمنح القضية الفلسطينية أكثر من عمود واثنين كحدث هامشي، كما كانت تقتصر على المعالجات الخبرية دون التعليق أو التحليل”.

والحقيقة أن هذه الفقرة دالة تماما على رؤية وطريقة ومنهج الدكتورة عواطف فى وضع افتراضاتها وطريقتها فى الاستنتاج ومن ثم الوقوع فى أخطاء التعميم!

(وللحديث بقية…)