رئيس التحرير
ضبط الأسعار.. أمن قومي
By mkamalأبريل 01, 2024, 13:10 م
686
في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة ارتفاع الأسعار بجلسات حوار مع الغرف التجارية والتجار واتحاد الصناعات ومزيد من المبادرات المجتمعية فى محاولة منها لضبط الأسواق، فإن الأسعار لا تزال خارج السيطرة فى ظل سوق مفتوحة استغلها المتلاعبون لجني مزيد من الأموال الحرام من جيوب البسطاء.
حالة ارتفاع الأسعار لم تأتِ وليدة الصدفة لكنها منهجية يستخدمها تجار الأزمات وضعاف النفوس ومَن يقتاتون على دماء البشر بشكل غير مباشر، بعد أن يلهبونهم بنار الأسعار التي تملأ خزائن من يستغلون ضعف الرقابة، وهو ما تستخدمه عناصر قوى الشر فى لحظات محددة لضرب الأمن القومي للدول المستهدفة.
الحوار الذي دار بين رئيس الحكومة ووزير التموين الأسبوع الماضي، يكشف مدى قدرة هؤلاء من تجار الأزمة على التلاعب بالأسواق، الأمر الذي يستوجب معه الضرب بيد من حديد فى مواجهة تلك الفئة.
فالدولة المصرية تمتلك حزمة من القوانين والإجراءات القادرة على ردع المتلاعبين ومستغلي السوق المفتوح لضرب استقرار الأسواق وبالتبعية ضرب استقرار الدول والتأثير على الأمن القومي.
(1)
الأسبوع الماضي سألت أحد التجار، متى تنتهي أزمة ارتفاع الأسعار؟! ولماذا لا تنخفض الأسعار بنفس السرعة التي ارتفعت بها بمجرد أن ارتفع سعر الدولار؟! ألم ينخفض الدولار وأصبح هناك إتاحة فى البنوك؟!
رد قائلاً: الأسعار لن تنخفض حاليًا لا يزال هناك وقت حتى تنخفض الأسعار لحين انتهـــــاء المخزون واستيراد سلع بالسعر الجديد عندها ستنخفض الأسعار.
فرددت عليه: ولماذا لم يحدث ذلك عندما ارتفعت الأسعار بشكل جنوني وكان رد الجميع السبب سعر الدولار وعدم الإتاحة.. ألم يكن هناك مخزون من السلع فى المخازن لدى حضراتكم بالسعر القديم المنخفض.. وقمتم بالتعديل عليه لتتضاعف مكاسبكم دون مبرر؟!
رد التاجر قائلاً: الأمر ليس كذلك، ارتفعت الأسعار لأن رأس المال لدي ليس نقودًا بل هو كمية محددة من السلع، وعندما ارتفعت أسعار الصرف وقل العرض وارتفع السعر فى السوق السوداء للعملة، تم التقييم على هذا الأساس.
على سبيل المثال لو أنني لدي 3 أطنان من المنتجات الغذائية صنف معين تكلفته كانت 10 ملايين جنيه، احتجت حال بيعها إلى 20 مليون جنيه لشراء نفس الكمية الأمر الذي جعلني أرفع السعر لتعويض ذلك وحتى يبقى لدي نفس الكمية.
قاطعته سريعًا: ولماذا لا يتم بنفس تلك السياسة العمل الآن فى خفض الأسعار؟! ألم يكن تسعير الدولار فى السوق الموازية قبل ذلك يتجاوز الـ 70 جنيهًا الآن هناك إتاحة وسعر الدولار 49 جنيهًا أي هناك انخفاض تقريبًا بلغ 30%، أي أن البضائع التي لديك الآن حال استمرارك فى الاحتفاظ بالأسعار الحالية ستضاعف قيمة رأس المال لديك من السلع الثلث تقريبًا بالإضافة إلى هامش الربح.. أليس هذا أمر مبالغ فيه.. أليست تلك التصرفات تأتي من قبيل الحرام؟!
رد التاجر: إنها التجارة لا تملكها العواطف لكن تتحكم فيها أمور أخرى كثيرة أهمها تحقيق مزيد من الربح فالسوق عرض وطلب.
قلت له: لدي صديق كان يدرس الدكتوراه فى لندن، طبقًا لمنحة حصل عليها، ونظرًا لأن المنحة قد وفرت له مبلغ المصرفات قليل، فكان من الصعب عليه أن يقيم بها فى المدينة لارتفاع التكاليف فسكن فى أطرافها بحثًا عن سكن أقل تكلفة وأسعار منخفضة للسلع، وكان على ناصية الشارع الذي يقيم فيه سيدة عجوز لديها محل صغير لبيع القهوة، وكان صديقي يشترى منها كل فترة عبوة، وفى يوم ذهب فوجد النوع الذي يشتريه معروضًا على الأرفف وهو يحمل سعرين مختلفين.
سأل صديقي السيدة العجوز: لماذا هناك عبوة تحمل سعر 9 إسترليني والأخرى من نفس النوع والحجم والوزن تحمل 12 إسترليني؟!
ردت السيدة قائلة: إنه نفس النوعية ونفس المزارع والمصنع لكن العبوات الموضوعة أعلى الرف بسعر 9 إسترليني هي من الشحنة القديمة، أما الثانية فهي نفس المواصفات لكن من الشحنة الجديدة ونظرًا لحدوث إضراب من عمال المصانع فى إفريقيا فقد تم رفع الأسعار الجديدة، ولك مطلق الحرية فى شراء أي منها.
هذا هو الفارق بين التجار لدينا والتجار فى أي مكان آخر إنها الرقابة الذاتية قبل رقابة القانون.
لم يعجب حديثي التاجر المصري ورد قائلاً: والله هي دي سياسة السوق عندنا!
هذا هو حال الأسواق التي يستغل ضعاف النفوس فيها الأزمة لتعكير صفو السلام المجتمعي لدى الدولة، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة وإن كانت واقعًا أقتنع به، فليس هناك أمر فى تلك الحياة متروكًا للصدفة.
دعونا نتوقف عند بعض النقاط، ألم تكن أزمة سعر الصرف أزمة صنعتها قوى استهدفت ضرب الاقتصاد المصري وعملت على مدى سنوات لتحويل النقد الأجنبي إلى استثمار والحيلولة دون وصوله إلى مصر؟! لقد استهدفوا سقفًا عاليًا للدولار وقاموا بتسعير السلع عليه مما أدى لارتفاع الأسعار فى الأسواق.
لقد أدارت الدولة المصرية الأزمة بحكمة شديدة حتى استطاعت أن تعبرها بسلام، لكن ما زالت آثارها واضحة بقوة على السوق ويستفيد منها تجار الأزمة.
(2)
أعود إلى ارتفاع الأسعار ومدى تأثيره على الأمن القومي للدولة فلقد كان مفهوم الأمن القومي تقليديًا مرادفًا لمفهوم الأمن العسكري، فى إشارة إلى الدفاع عن الدولة ضد أي تهديد عسكري خارجي.. وفى النصف الثاني من القرن العشرين، أدت البيئة الأمنية الدولية سريعة التطور إلى ظهور تهديدات ومخاطر جديدة، مما أدى إلى الحاجة إلى توسيع مفهوم الأمن القومي ليشمل هذه التحديات الجديدة. وهكذا، فإن الأمن القومي الآن لا يغطي الأمن العسكري فحسب، بل يشمل مجالات الأمن الاقتصادي، وأمن الدولة والأمن العام، والأمن الغذائي، والدفاع السيبراني، والأمن البشري، والأمن البيئي وما إلى ذلك. وضمن هذه المجالات الأمنية، زادت أهمية الأمن الاقتصادي، خاصة فى السنوات التي تلت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، والتي تجلت آثارها على المستوى العالمي والتي لا تزال آثارها تشكل تحديًا يتعين على العديد من دول العالم التغلب عليها.
وفى الثاني من يناير الماضي نشرت المجلة الدولية للعلوم التقدمية والتكنولوجيا دراسة بعنوان «تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية على الاستقـرار الأمني ـ دراسة حالة إندونيسيا» جاءت الدراسة لـ 4 من الباحثين فى كلية إدارة الدفاع فى جامعة (Indonesia Defense University UNHAN RI) أشارت الدراسة إلى أن استمرار ارتفاع الأسعار يستهدف إحداث الاضطرابات الاجتماعية، مما يؤثر على الاستقرار العام للبلاد، واستشهدت الدراسة بارتفاع أسعار الأرز السلعة الأساسية ومبالغات التجار فى الأسعار.
خاصة أن ارتفاع الأسعار يؤثر على رفاهية الأسر التي كانت فى السابق قادرة على تلبية احتياجاتها تقريبًا ومع ارتفاع الأسعار بدأت تلك الأسر فى الحد من ذلك.
إن استهداف الأمن الداخلي للدول وما يتبعه من استهداف للأمن القومي على اعتبار أن الأول جزء من الثاني، الأمر الذي جعل قوى الشر تستخدم الأسعار كإحدى أدوات إحداث الاضطرابات المجتمعية والتأثير على السلام المجتمعي.
فرغم أن مؤشر المنظمة الدولية للأغذية والزراعة «الفاو» أشار إلى انخفاض فى أسعار الأغذية بمقدار نقطة خلال شهر فبراير 2024 بالمقارنة بشهر يناير 2024 على مستوى العالم، وكذا الحبوب بمقدار 6 نقاط والزيوت بمقدار نقطتين تقريبا، فى الوقت ذاته ارتفعت أسعار السكر واللحوم والألبان.
إن تداعيات ارتفاع الأسعار على الأمن القومي خاصة فى البلدان المستوردة تداعيات سلبية، الأمر الذي يستوجب معه الضرب بقوة على يد المتاجرين بالأزمة والمتلاعبين بالأسعار.
كما أن هناك أدوات أخرى من الممكن أن تستخدمها الحكومة للسيطرة على الأسعار وإن كانت نتائجها لن يشعر بها المواطن على المدى القريب، لكن العمل على خفض أسعار السلع وتوافر المعروض من السلع الغذائية هو من ركائز الحفاظ على الأمن القومي للدولة.
فعلى الرغم من وجود موجة متصاعدة من ارتفاع الأسعار لمختلف أنواع السلع والخدمات تضرب جميع دول العالم بلا استثناء، فقد واجهت أغلب الدول المعاصرة مثل هذه الأزمات عبر التاريخ بمعالجات مختلفة ما بين التشجيع (تنمية وعي الاستهلاك) والاتجاه نحو السلع البديلة والأسواق الشعبية كبديل للمنتج المستورد أو السلع الغالية بشكل عام، كما اتجه بعضها للعمل على استثمار الأراضي للزراعة، وتشجيع المنتج المحلي مع دعم بعض الخدمات التي تقدمها الحكومة.
إن مواصلة ارتفاع الأسعار وتلاعب البعض من التجار يعد تهديدًا للأمن القومي خاصة إذا كان الأمن الغذائي وسد حاجة الإنسان للطعام أحد عناصر الأمن القومي.
فأزمات الغذاء وارتفاع الأسعار والغلاء دمرت العديد من الدول، وفجّرت الكثير من الحروب، ونشرت الفوضى والاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
فإذا كانت الحكومة تسعى لزيادة المعروض من السلع من خلال المبادرات المختلفة وكذا توفير السلع نتيجة المتوفر من المخزون الاستراتيجي للدولة، فإن ذلك أمر جديد فى مواجهة الأزمة لكن لا يكفي ولابد من أن تستخدم الحكومة عصا القانون مع حزم التشجيع فى نفس التوقيت، كما لابد من العمل على التوسع فى استخدام المنتج المحلي كبديل للمستورد لتقليل الضغط على سلاسل التوريد التي باتت أيضًا لها تأثر واضح على الأمن القومي، فـ قوة وقدرة تلك السلاسل على العمل يعبر عن قوة الأمن القومي للدولة، وقد كانت جائحة كوفيد 19 كاشفة للعالم ومشيرة إلى مدى تأثير سلاسل التوريد على الأمن القومي.
فالصراعات المستقبلية قد تؤثر على سلاسل التوريد فمن الممكن أن يؤدي تطور الصراع فى بحر الصين الجنوبي إلى تعطيل سلاسل التوريد خاصة التكنولوجية والإلكترونيات وتدفقات التجارة العالمية.
فقد أدت العقوبات التي فُرضت على روسيا عقب الحرب الروسية الأوكرانية الى إيجاد أسواق جديدة فى آسيا وركزت على استخدام «الرنمينبي» الصيني بديلاً للدولار.
كما أثرت تطورات الأوضاع فى الأراضي المحتلة على سلاسل التوريد فى المنطقة مما أثر على ارتفاع الأسعار للسلع.