غدًا اليوم الذى شرّفه الله وفضّله بفضائل عظيمة، اليوم الذى خصه الله بالأجر الكبير والثواب العظيم، اليوم الذى يغمر الله فيه عباده بالرحمات، ويكفر عنهم السيئات ويمحو عنهم الخطايا، ويعتقهم من النار.
غدًا يوم عرفة، اليوم الذى أكمل الله فيه الدين وأتم النعم على المسلمين.. إنه يوم عرفة الذى يقف فيه الناس على صعيد واحد تجمعهم رابطة الإيمان راجين عفو الله ورحمته ومغفرته.
وإذا كان الحجيج يقفون على صعيد عرفات يؤدون الشعيرة الكبرى من شعائر فريضة الحج، فإن أبواب الرحمة والمغفرة مفتوحة أمامنا ونحن فى أماكننا، فرحمة الله وسعت كل شىء وكل مكان.
«اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينًا» المائدة 2.
هذه الآية العظيمة نزلت فى يوم عرفة، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب فى المسلمين وهم وقوف بعرفة.
فتم إكمال الدين فى ذلك اليوم لأن المسلمين حجوا حجة الإسلام، فاستكملوا أركان الإسلام كلها.
وتم إتمام النعمة بالمغفرة لقوله تعالى: «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا» الفتح 2.
ويوم عرفة أقسم به الله فهو اليوم المشهود فى قوله تعالى: «وشاهد ومشهود» البروج 3.
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة» رواه الترمذى وحسنه الألبانى.
إن يوم عرفة من أفضل الأيام عند الله.. فهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف.
فعن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذى الحجة، قال: فقال رجل: يا رسول الله هن أفضل أم عدتهن جهادًا فى سبيل الله، قال: هن أفضل من عدتهن جهادًا فى سبيل الله، وما من يوم أفضل من الله من يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهى بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادى شعثًا غبرًا جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتى، ولم يروا عذابى، فلم ير يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة» صحيح ابن حبان.
ويوم عرفة يوم إجابة الدعاء، وهذا ما أخبرنا به النبى صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير».
وليس هناك أفضل من التفرغ للذكر والدعاء والاستغفار فى هذا اليوم العظيم.
والوقوف بعرفة أهم أركان الحج، فقد بين الرسول أن الحج عرفة.
وعرفات منطقة تقع على بُعد 22 كيلومترًا شرق مكة المكرمة، وهو أحد حدود الحرم من الجهة الشرقية وإجمالى مساحته 10.4 كلم2، وهناك علامات تبين حدوده، وعرفات ميدان واسع مستوى، ومن أهم معالمه مسجد نمرة الذى تقام به صلاة وخطبة يوم عرفة.
وكان أول بناء له أول عهد الخلافة العباسية، وبنى فى الموقع الذى شهد خطبة الرسول فى حجة الوداع، وتوالت توسعاته إلى ما وصل إليه الآن، فأصبحت مساحته 124 ألف متر مربع، مؤلف من طابقين ويتسع لأكثر من 300 ألف من المصلين.
ويحيط بعرفات قوس من الجبال، وبه جبل الرحمة والوقوف بالجبل ليس من واجبات الحج لقول النبى: «وقفت هاهنا بعرفة وعرفة كلها موقف».
وأسفل جبل الرحمة يوجد مسجد الصخرات، وهو مرتفع قليلاً من الأرض، يحيط به جدار قصير وفيه صخرات كبار وقف عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة وهو على ناقته.
ومن لم يستطع الحج يستطيع أن ينال الثواب والأجر الكبير من خلال العمل الصالح، كصوم عرفة وهو سُنّة فعلية فعلها النبى صلى الله عليه وسلم، وقولية حث عليها، وقد روى أبو قتادة أن النبى قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السُنّة التى قبله والسُنّة التى بعده».
فيسن صوم يوم عرفة وصومه يكفى سنتين، سنة ماضية وسنة قادمة.
والعتق من النار فى يوم عرفة عام لجميع المسلمين من وقف بعرفة ومن لم يقف به.
فلا طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو بالخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شىء إلا أعاذه الله منه.. والأرجح أن هذه الساعة بعد العصر، والله تعالى أعلم.
إن يوم عرفة منحة ربانية لتجديد الإيمان وصلة العبد بخالقه، وما أحوجنا إلى أن نعظم ذلك اليوم فى نفوسنا بما يقربنا إلى الله عز وجل، وأن نفرغ قلوبنا فيه للطاعة طمعًا فى رحمة الله ومغفرته.
وقد أكرمنى الله بالوقوف على صعيد عرفات الطاهر للمرة الأولى منذ أكثر من ربع قرن، ومرة ثانية بعدها بثلاثة أعوام، إلا أن قلبى يهفو إلى مكة وإلى حج بيت الله الحرام والوقوف بعرفات الله، اللهم استجب الدعاء ويسر لى أداء مناسك الحج فى العام القادم إن كان فى العمر بقية..
اللهم برحمتك التى وسعت كل شىء، نسألك أن تغفر ذنوبنا، وتستر عيوبنا، وتيسر أرزاقنا، وأن تحسن أخلاقنا، وتشفى مرضانا، وترحم موتانا، وتحفظنا وأولادنا، وتعيننا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك وتوفقنا لما تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين.