عن سر تأخر المصريين يقول محمد أفندى عمر:«أردت بجمع هذه الأدواء التى تضر بصحة أمتى أن أحث البقية الصالحة من الأمة، فتهب من غفلتها، وتلم شعثَها، وترأب صدعَها، وتستأصلها، وتبحث عن دواء نافعٍ، وبلسم شاف، تداوى تلك الأدواء التى أثقلتنا ونحن عنها غافلون هذا ما قصدت، وإنمَّا الأعمال بالنيات، ولكل إمرئ ما نوى».
وهكذا يستهل كتابه باحثا عن المشكلات التى ألمت بالشخصية المصرية ولم تفرق بين رجالها ونسائها، فقرائها وأغنيائها، أخذ يصنف المجتمع إلى طبقات، ويتردد بين طبقاته الغنية والفقيرة ويقف طويلاً أمام الطبقة المتوسطة، ويتنقل بين عادات الحضر والبدو والريف والسواحل، باحثاً عن علة العلل وسر الأسرار فى الكشف عن سر تأخر المصريين، وأراه فى هذا المنحى الخطير يتشابه إلى حد كبير مع أنتونى جرامشى هذا السجين الثائر الذى أرهب أعتى أباطرة الظلم فى زمانه، إذ خافه الدوتشى موسيلينى وآثر السلامة فى سجنه مغبة انتشار أفكاره بين أوساط إيطاليا التى اجتهد فى إظلام عقولها ليتسنى له إفشاء الفاشية، إلا أن أنتونى استقبل قبلة الحرية فى غيابات سجنه واستلهم ببصيرة سُبل الفرار من مأزق التغيب وفخ التجهيل الذى نبشه الدوتشى موسيلينى أمام شعبه، وأثمرت سنوات السجن بفكر ثورى تحررى يصلح ما أفسده الفرد ونخبته البائسة فكانت (دفاتر السجن) لجرامشى معول هدم لأسوار العزلة التى فرضت مانعًا ليحول بين المثقف المستنير وفئات الشعب المتباينة، فهو يرى الإصلاح على يد المستنيرين فريضة غائبة تستوجب العودة لإصلاح حال مجتمعه للأفضل وإلا تكن خيانة المثقف لوطنه، وتمادى إلى أبعد من ذلك إلى ارتباط المثقف عضويا بمشكلات مجتمعه لحلها لا توصيفها فقط ، لذا يفرق بين المثقف التقليدى والعضوى المهموم بعلاج أمراض مجتمعه، وهنا وجه الشبه مع محمد أفندى واعتمادًا على التاريخ الذى يجعله ماركس فى أدبياته الأصل فى العلوم نجد أن مؤلف (سر تأخر المصريين) سبق مؤلف (دفاتر السجن) بما يقارب العشرين عاماً حيث صدرالأول فى 1902، وتلك لمحة استوقفتنى تحت تأثير ما يُطلق عليه النعرة القومية، إذ ليس كل نموذجى كان السبق فيه للغرب أولاً، بل كان للمصريين السبق فى عصف ذهنى يبحث فى الثورة على الجامد من الملامح التى ألمت بالشخصية الوطنية، ولا أدعى أخذ جرامشى عن محمد أفندى إنما هى وقفة أمام أرقام التاريخ!
ونعود لسؤال جلال أمين (ماذا حدث للمصريين؟) ولمحاولات محمد أفندى معرفة (سر تأخر المصريين!) نجد الأخير وهو الباحث الأول تاريخيًا الذى تعرض فى بحثه لمشكلات وأمراض المصريين فى زمانه من خلال رصده السلوكيات اليومية والحياتية لطبقات المجتمع الثلاثة (الأغنياء والمتوسطين والفقراء) والعجيب أنه برصد مباشر لتلك الآفات نجدها بعينها – مع تطورها الطبيعى – هى ذاتها التشوهات التى أصابت الشخصية المصرية فى حاضرنا المعاش، وكأنه من المُحتم علينا مراجعة أنفسنا على رأس كل جيل أو جلين على الأكثر لإصلاح ما نُفسده لاستعادة الروح فى الشخصية المصرية، ولا ينكر جاحد أن مصر فى صدر نهضتها الحديثة عندما اختارت واليها 1805 حتى افتتاح قناة السويس 1869 خلال تلك الفترة كانت مصر دولة عظيمة اقتصاديًا وتعليميًا واجتماعيًا، أما سياسيًا وعسكريًا فقد سادت الإقليم فضمت الشام كما راسل الصدر الأعظم إبراهيم باشا إلى والده والى مصر: أما الآن وقد تحقق للمصريين ما أرادوا ودانت لهم الشام، ماذا بعد؟، وكان الجواب أنه كما للمصريين أنسابًا ورحمًا، ومعاملات وتجارة فى الشام، لهم أيضا نفسًا تطوق إلى المقدس فأمر الوالى قائد جيشه بضم الحجاز إلى مصر، كما جاء فى كتابى فتح الشام للأميرالاى عمر طوسون ورئيس تحرير الأهرام داوود بركات، ولما كان الدرس الأول فى حكم مصر منذ عهد الأسرات: « إن استقرار مصر للمصريين يعنى استمرار تدفق نهرهم المقدس»، كان لزامًا على مصر تأمين منابع النيل، والذى يذكره التاريخ أن ملك أوغندا عندما علم بإرساليات الجيش المصرى إلى دول النيل خرج على رأس زعماء القبائل يسلم علم بلاده طواعية تحت الإمارة المصرية، ولما ادعت قيصرية روسيا ظلم المسيحيين فى ولايات رجل أوروبا الضعيف تصدت مصر بثلاث حملات متتالية حتى انصاعت روسيا لحقيقة احترام ممارسات الشعائر الدينية فى الشرق بزعامة مصر فكانت معارك القرم التى أبهرت القوى الاستعمارية، ناهيك عن معارك اليونان والمورة 1827 التى أكدت لإمبراطوريات وممالك أوروبا قدرة المقاتل المصرى وزادت من تخوفهم وقلقهم من هذا الجيش، وبدأت تتكالب الأمم بداية من معاهدة لندن بتقويض الجيش المصرى وتقليل عدده وإضعاف عتاده 1840، ومرورًا باتفاقية القسطنطينية 29 مارس 1888 بملكية مصر شكليًا – فقط – لقناة السويس، وبدأ وهج تقدمها فى الانزواء مع الاحتلال البريطانى 1882والذى لاحت إرهاصاته فى 17مارس 1807 تحت قيادة الجنرال ألكسندر ماكنزي فريزر عندما حاصر الإسكندرية واضطرت القوات المحتلة للمغادرة فى 29 سبتمبر بسبب استبسال السكندريين بزعامة محمد كريم، واستفاقت بعد حادثة دنشواى 1906 لإعدام فلاح مصرى روى ظمأ جندى الاحتلال بعدما قتلته الشمس، ثم الحراك الذى أحدثه مصطفى كامل وزميله محمد فريد حتى ثورة 19 وبداية بزوغ الثقة للمصريين فى الاعتماد على أنفسهم لتغير واقعهم من جديد حتى صدر الدستور فى 19 أبريل سنة 1923 والذى انعقد وفقه أول برلمان مصرى فى 15 مارس سنة 1924، وبعده معاهدة 36 والتى نصت على انسحاب القوات البريطانية من كل المواقع حتى قناة السويس وتحديدها بعشرة آلاف جندى وأربعمائة طيار فقط، ثم الاستشعار بالخطر الصهيونى وبداية جولات الصراع المسلح وإعادة الجيش للمشهد السياسى، كما فى حركة عرابى1882 جاءت ثورة 52 ومطالبها فى التغيير والمتسقة مع طموحات الشعب ونُخبه المثقفة من شعراء وروائيين وفنانين ومنتجين وإعلاميين ومفكرين وأدباء آمنوا باستعادة ملامح الشخصية المصرية وعبروا بها من نكسة يونيو إلى أكتوبر ٧٣ وألهبوا الوجدان بقيم وصفات استعذبها المصريون لبناء مستقبلهم، وعندما جاء مستقبلهم الذى هو لنا الآن تاريخا معاصرًا أخذنا فى التحسر على تفلت ملامح الزمن الجميل وأمسى الحديث عنه نوعًا من المراثى لحال كنا عليه أفضل، وعاد السؤال يلح علينا للإجابة عنه فى دورته الثالثة بعد 1902 لمحمد عمر و1998 لجلال أمين ما هو سر تأخر المصريين، أو ماذا حدث للمصريين، قبل 2011 وحتى الآن ، وما الذى تغير فى ملامح الشخصية المصرية ؟!
هذا ما نكشفه معًا فى القادم إن شاء الله.
صالون الرأي
ماذا حدث للمصريين؟! (2)
By amrسبتمبر 07, 2018, 21:59 مالتعليقات على ماذا حدث للمصريين؟! (2) مغلقة
2041
TAGمقالات