عندما تعرضت مصر لنكسة 67 كان عمرى أربع سنوات، ومضت سنوات طفولتى المبكرة والورق الأزرق يغطى زجاج النوافذ، وحائط سميك أمام مدخل المنزل، وكل فترة كنا نسمع صوت صافرات الإنذار فى أثناء حرب الاستنزاف الباسلة.
وفى حرب أكتوبر المجيدة كان عمرى 10 سنوات، وعرفت شعور النصر، والأغانى الوطنية تملأ أسماعنا من الراديو وكان لأغنية «بسم الله.. الله أكبر.. بسم الله» صدى خاصًا فى نفسى، فقد كانت تدخل إلى القلب مباشرة، أزلنا الورق الأزرق وهدمنا الحائط من أمام المدخل، كما هدم جنودنا البواسل خط بارليف، وقهر جنودنا الجيش المغرور الذى أشاع أنه لا يقهر.
وبعد الحرب ذهبنا فى رحلة مدرسية إلى معرض الغنائم الذى أقيم على أرض المعارض القديمة مكان دار الأوبرا حاليًا، وشاهدنا الدبابات الإسرائيلية مدمرة وصعدنا فوق الدبابات الباتون والسنتوريون.. وتم التقاط الصور ونحن فوق دبابات العدو.
وفى رحلة أخرى ذهبنا إلى السويس المدينة الباسلة ورأينا آثار العدوان على بيوت السويس.. ولم يكن التعمير قد بدأ بعد، كلها مشاهد محفورة فى الذاكرة ولن تُنسى رغم مرور عشرات السنين.
وكما خاضت مصر معركة السلاح خاضت معركة السلام، فبعد 10 أيام من انطلاق الحرب جاء «خطاب النصر» فى السادس عشر من أكتوبر فى افتتاح الدورة الاستثنائية لمجلس الشعب.. فيقول الرئيس أنور السادات: «أجىء إليكم اليوم أتحدث معكم ومع جماهير شعبنا ومع شعوب أمتنا العربية وأمام عالم يهمه ما يجرى على أرضنا لأنه وثيق الصلة بأخطر القضايا الإنسانية، وهى قضية الحرب والسلام، ذلك لأننا لا نعتبر نضالنا الوطنى والقومى ظاهرة محلية أو إقليمية لأن المنطقة التى نعيش فيها بدورها الاستراتيجى والحضارى فى القلب من العالم وفى الصميم من حركته ولأن الحوادث كبيرة ولأن التطورات متلاحقة ولأن القرارات مصيرية».
ويتابع الرئيس: «إننا حاربنا من أجل السلام، حاربنا من أجل السلام الوحيد الذى يستحق وصف السلام، وهو السلام القائم على العدل، إن عدونا يتحدث أحيانًا عن السلام ولكن شتان ما بين سلام العدوان وسلام العدل، إن دافيد بن جوريون هو الذى صاغ لإسرائيل نظرية فرض السلام، والسلام لا يُفرض والحديث عن فرض السلام معناه التهديد بشن الحرب أو شنها فعلاً، والخطأ الكبير الذى وقع فيه عدونا أنه تصور أن قوة الإرهاب تستطيع ضمان الأمن، ولقد ثبت عمليًا اليوم وفى ميدان القتال عقم هذه النظرية، السلام لا يُفرض وسلام الأمر الواقع لا يقوم ولا يدوم، السلام بالعدل وحده».
وبعد مرور أربع سنوات على حرب أكتوبر المجيدة، وبسبب عدم التطبيق الكامل لبنود القرار الأممى رقم (338) جاء تفكير الرئيس السادات فى دفع عملية السلام لعدم ثقته فى ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لتنفيذ القرارات المتفق عليها.
وفاجأ السادات الشعب المصرى والعالم أجمع حين قال فى خطابه أمام مجلس الشعب فى 9 نوفمبر 1977: «ستُدهش إسرائيل حينما تسمعنى الآن أقول أمامكم إنى مستعد إلى الذهاب لبيتهم نفسه إلى الكنيست الإسرائيلى ذاته».
وبالفعل فى 19 نوفمبر 77 هبطت طائرة الرئيس السادات فى مطار بن جوريون فى تل أبيب، فى لحظة أنهت صفحة الحرب بين مصر وإسرائيل إلى الآن.
وبعد زيارة القدس، تم توقيع اتفاقية السلام فى كامب ديفيد بعد 12 يومًا من المفاوضات فى 17 سبتمبر 1978.
وفى 8 مارس 1979 قام الرئيس الأمريكى جيمى كارتر بزيارة رسمية لمصر استمرت ثلاثة أيام.
وكنت أيامها طالبًا فى المدرسة الثانوية، وبالطبع خرجت المدرسة واصطفت فى شارع الهرم لتحية السادات وضيفه كارتر وهما متجهان لزيارة الأهرامات.
هذه الزيارة كانت بالغة الأهمية حيث أجريت مباحثات مكثفة بين الرئيسين حول المشاكل التى تعوق توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، نجحت الزيارة فى حل المشاكل العالقة.
وغادر بعدها كارتر إلى إسرائيل، ثم عاد مرة أخرى إلى القاهرة ليبلغ السادات بنتائج مباحثاته مع بيجين.
إثر ذلك توجه السادات إلى أمريكا وتم بالفعل توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بحديقة البيت الأبيض يوم الاثنين 26 مارس 1979.
وبالفعل كان السادات صاحب نظرة مستقبلية عميقة، نجح فى استرداد أرضه وجنب مصر ويلات الحروب، فما حققته مصر من خلال السلام يعد إنجازًا كبيرًا من حيث مضمونه الذى أعاد سيناء كاملة لمصر، أو من حيث استمراره واستقراره واستمرار طرفيه فى الالتزام بما وقّعا عليه.
وفى الخامس والعشرين من أبريل 1982تم رفع العلم المصرى فوق سيناء بعد استعادتها كاملة من المحتل الإسرائيلى، وكان هذا المشهد الأخير لسلسلة طويلة من الصراع المصرى الإسرائيلى، انتهى باستعادة الأراضى المصرية كاملة بعد انتصار كبير للسياسة والعسكرية المصرية.
وخلال ثلاثين عامًا من العلاقات المصرية الإسرائيلية وتبادل التمثيل الدبلوماسى ووجود علاقات دبلوماسية بين دولتين لهما سيادة، فإن العلاقات المصرية الإسرائيلية لها خصائص مختلفة، فمصر لا تستطيع فك ارتباطها بالقضية الفلسطينية.
كما أن العلاقات مع إسرائيل وفق نصوص المعاهدة لا يجعل منها دولة صديقة أو يزيل عنها صفة العدوانية والاحتلال والاستيطان، خاصة أن توجهات إسرائيل ظلت كما هى، بل نزعت نحو الهيمنة ورفض حل الدولتين، ورفض الاعتراف بحق الدول العربية التى تحتل أراضيها فى التطلع إلى تحريرها.
ومنذ بدأت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وهناك رفض شعبى مصرى لها، بسبب مواقفها العدوانية تجاه الشعب الفلسطينى واللبنانى.
وأصبحت العلاقات تنحصر فى الجانب الرسمى ولم تتمكن من اختراق الحاجز الشعبى، وأصبح مفهوم السلام لدى المصريين يقتصر على إنهاء الحروب وليس فتح القلوب.
فالسلام مع إسرائيل سلام بارد لا يتميز بالدفء الذى كان الإسرائيليون يتوقعونه، فالسلام مع إسرائيل هو سلام ضرورة لتجنب الحرب وآثارها.. فخلال ثلاثين عامًا لم يقم الرئيس المصرى بزيارة إسرائيل سوى مرة واحدة للمشاركة فى جنازة إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلى الراحل الذى أسهم فى صُنع عملية أوسلو للسلام مع الفلسطينيين وينطبق هذا المعيار على الطرفين فيحرصان على عدم تجاوز الخطوط الحمراء فى إدارة العلاقات ومعالجة الأزمات التى تعترض العلاقات.
والمقصود بالخطوط الحمراء المناطق الأمنية والعسكرية التى ترتبط بسباق التسلح واحتمالات وقوع حرب.
مفهوم السلام المصرى الإسرائيلى جعل كل طرف يحافظ على تطوير جيشه وإمداده بأحدث الأسلحة والحفاظ على أعلى مستويات التدريب.
ويعد الجيش المصرى أقدم جيوش العالم منذ عام 3400 ق.م، خاض الجيش عبر تاريخه 955 معركة لم يهزم إلا فى 12 فقط، وخلال حرب أكتوبر أثبتت القوات المسلحة المصرية أنها من أقوى جيوش العالم، والأول أفريقيًا وعربيًا عندما تمكنت من كسر الجيش الإسرائيلى.
وفى كل عام تصدر مؤسسة «جلوبال فاير باور» المعنية بالتصنيف الدولى للجيوش حول العالم تقريرها بشأن ترتيب جيوش العالم من حيث القوة والعدد، وخلال ثلاثين عامًا بعد حرب أكتوبر تصاعدت القوة العسكرية للجيش المصرى.
ففى عام 2009 احتل الجيش المصرى المركز (11) عالميًا والمرتبة الأولى أفريقيًا وعربيًا.
وفى عام 2010 كان ترتيب مصر رقم (17) بينما كانت إسرائيل رقم (11).
وفى عام 2013 تقدمت مصر للمركز (14) على مستوى العالم ليأتى بعد الجيش الإسرائيلى مباشرة، ومتقدمًا على الجيش الإيرانى الذى احتل المرتبة رقم (16).
وفى عام 2016 وفى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى تصدر الجيش المصرى ترتيب الجيوش العربية فى قائمة «جلوبال فاير باور» التى ضمت 126 دولة فى العالم، واحتلت مصر المركز العاشر عالميًا من حيث قوة الجيوش العسكرية.
ومنذ توليه رئاسة البلاد سعى الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى تعزيز تسليح الجيش المصرى بأسلحة متطورة ومتنوعة ما بين أسلحة دفاع جوى وبرى وبحرى وطيران، كما عمل على تنويع مصادر هذا السلاح.
وأصبحت مصر لا تعتمد على دولة بعينها فى صفقات التسليح، بل حصلت على أسلحة من فرنسا وروسيا وألمانيا والولايات المتحدة والصين، وهو ما يجعل لمصر ثقلاً عسكريًا بين دول العالم، خاصة فى ظل التحديات المختلفة التى تحيط بالبلاد.
وتستمر صفقات تسليح الجيش لتواكب التطورات الحديثة للتسليح ومواجهة التهديدات الداخلية والخارجية وتزايد الإرهاب فى المنطقة، فتم التعاقد على صفقات أسلحة فرنسية تخطت قيمتها سبعة مليارات دولار موزعة بين 24 طائرة «رافال» وحاملتى طائرات «ميسترال»، إضافة إلى فرقاطة بحرية «فريم»، وقطع أخرى يجرى تصنيع بعضها فى ترسانة الإسكندرية التى أعاد الرئيس السيسى تشغيلها وتطويرها بعد توقفها عدة سنوات، كما حصلت مصر على قطعتى زورق صواريخ أمريكى «امبسادور» صنعت بمواصفات خاصة بالبحرية المصرية.
كما تسلمت مصر 8 طائرات مقاتلة «إف 16 بلوك» فى أغسطس 2015 و4 فى أكتوبر من نفس العام، إضافة إلى تدشين أول غواصة مصرية حديثة بألمانيا من طراز «1400/209» وهى إضافة تكنولوجية هائلة للقوات البحرية، وقد تعاقدت مصر على 4 غواصات.
كما اتفقت القاهرة مع روسيا على صفقات بقيمة 3.5 مليار دولار للحصول على صواريخ «إس 300» والتى وصلت بالفعل نهاية العام الماضى، و12 مقاتلة «سوخوى سو 30» وطائرات ميج فضلاً عن دبابات روسية متطورة.. ومروحيات «52kA» الخاصة بتسليح حاملتى الطائرات.
التعاقد على صفقات السلاح الجديدة له أسباب بعضها مرتبط بالتحديات الإقليمية والدولية التى استجدت خلال الأعوام الماضية، وتطوير ترسانة الأسلحة المصرية التى لم تتجدد بالشكل الكافى خلال الأعوام الأخيرة من حُكم مبارك.
إضافة إلى تأمين الحدود البحرية والمياه الاقتصادية لمصر، وتنويع مصادر السلاح بعد سنوات طويلة من الاعتماد فقط على السلاح الأمريكى، ورغم القدرات الكبيرة للجيش المصرى وارتفاع مؤشرات تصنيفه عالميًا بشكل غير مسبوق، إلا أن ميزانية الإنفاق العسكرى الخاصة به تأتى رقم 45 من إجمالى 126 دولة على مستوى العالم.
تدرك القوات المسلحة حجم التحديات والتهديدات المحيطة ليس فقط بالأمن القومى المصرى، بل بوجود مصر ذاتها، وأن الأعداء من حولها يريدون إسقاطها وتفتيتها، من هنا يأتى اهتمام القيادتين السياسية والعسكرية بتقوية وتدعيم القوات المسلحة فى مختلف أفرعها الرئيسية وتشكيلاتها القتالية ووحداتها ومختلف منظوماتها بكل ما تحتاجه حتى تكون قادرة فى كل وقت على مواجهة التحديات التى قد تهدد أمن الوطن.
ولنتذكر دائمًا الأمر الإلهى الذى جاء فى سورة الأنفال:
” وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ”
ولا ننسى قوله تعالى فى سورة النساء:
” ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة “
يجب أن يكون كل مصرى فى حالة يقظة واستعداد دائمة، وأن نعى وندرك حجم التحديات والمخاطر التى تهدد مصر.
وأستعير من الذاكرة أغنية عبد الحليم حافظ التى ملأت الأسماع عام 1968، والتى أتمنى أن تكون حاضرة فى ذاكرتنا دائمًا:
خلى السلاح صاحى صاحى صاحى
لو نامت الدنيا صاحى مع سلاحى
سلاحى فى إيديا نهار وليل صاحى
ينادى يا ثوار عدونا غدار
خلى السلاح السلاح صاحى صاحى