صالون الرأي
تجديد الخطاب الديني.. وبناء الإنسان المصري
By mkamalأكتوبر 22, 2018, 14:23 م
1652
إن تجديد الخطاب الدينى هو طاقة إبداعية روحية جديدة، تنطلق داخل العقول قبل أن تتحقق على أرض الواقع.
وكما يقول الشيخ محمد أبوزهرة: “إنما التجديد هو أن يعاد إلى الدين رونقه، ويُزال عنه ما علق به من أوهام، ويُبَيَّن للناس صافيًا كجوهره نقيًا كأصله”.
وقد يتصور البعض أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى حديثة لا يتجاوز عمرها سنوات قليلة، لكن الحقيقة أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى لم تتوقف خلال عصور التاريخ الإسلامى وإن اتخذت مسميات مختلفة، كالإحياء والإصلاح واليقظة والتطوير..
وكان من أشهر المجددين الخليفة عمر بن عبد العزيز الذى جدد سنة الخلفاء الراشدين، وأئمة الفقه الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد بن حنبل، ثم كانت حركة الإحياء والإصلاح التى قام بها أبوحامد الغزالى فى القرن الخامس الهجرى، فى كتابه “إحياء علوم الدين”.
وأول من استخدم مصطلح التجديد الدينى الفيلسوف الدكتور محمد إقبال حينما أصدر كتاب «إعادة بناء الفكر الدينى فى الإسلام على أساس من النقل والتراث العقلى» حيث جمع بين النص والاستفادة بنتائج الفكر الحديث.
ثم جاءت مدرسة الإحياء والتجديد واليقظة التى كان من أبرز أعلامها الشيخ حسن العطار، جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده، وقد نقلت هذه المدرسة الخطاب الدينى نقلة نوعية وكيفية عن صورته التى كان عليها فى فترة التراجع الحضارى.
وأصبح الخطاب الدينى لا يقف عند ظواهر النصوص، وإنما فتحت آفاق استخدام العقل فى فهم النصوص الدينية، وضرورة فهم الدين على أنه دين للحياة بكل أبعادها.
وأشار الشيخ الشعراوى إلى هذا المفهوم وهو بصدد توضيح منهجه فيقول: «لا أريد أن أكون اسطوانة متكررة لمن سبقنى.. أريد أن آتى بجديد يناسب جدة عصور الإسلام، فالسابقون معذورون فى أن يقولوا ما ناسب عصرهم، فإذا أنا حاولت أن أكرر ما قالوه فى عصورهم أبقيت عصرى بلا عطاء وخالفت منهج القرآن الذى جعله الله يكشف فيه كل عصر عن سر، ويُبقى أسرارًا للعصور التالية حتى لا يأتى عصر من العصور يتوقف فيه عطاء القرآن».
فالهدف من تجديد الخطاب الدينى التأكيد على صلاحية الشريعة الإسلامية وتميزها بالثبات والمرونة وإصلاحها لأحوال الناس فى كل زمان ومكان، وقبولها لمختلف الآراء الاجتهادية التى تستند إلى الأدلة الشرعية.
وتجديد الخطاب الدينى يعنى تجريده مما علق به من أوهام أو خرافات أو فهم غير صحيح ينافى مقاصد الإسلام وسماحته وإنسانيته وعقلانيته، بما يلائم حياة الناس ويحقق المصلحة الوطنية ولا يمس الأصول العقائدية أو الشرعية أو القيم الأخلاقية الراسخة.
وهو أيضًا إعادة صناعة وعى دينى ووطنى وإنسانى جذاب ومنير ولافت للنظر، ومؤسسى ومدرك لواقع بكل تعقيده وملابساته، وقادر على الخوض فيه ومواجهته بنجاح، بحيث يحاصر فكر التطرف والتكفير ويفنده ويفككه، ويحرز فى هذا نجاحًا يلمسه الناس، ويعيد بناء الإنسان المصرى الجاد العبقرى المبدع الرائد، ويعيد تشغيل مصانع الحضارة فى الفكر المسلم، حتى يرجع لقراءة القرآن فيستخرج منه الحضارة والتمدن والحياة والإحياء..
وكل هذا لابد فيه من عمل منظم مؤسسى وفرق عمل تعتمد على ورش عمل وخطط تنفيذ ومتابعة وحوكمة.
ولنا أن نتساءل.. هل المؤسسات الدينية القائمة قادرة على إحداث ثورة تجديد على مستوى الأفكار والمفاهيم؟
إذا بدأنا بالأزهر الشريف سنجده قد طرق أبواب تجديد الخطاب الدينى انطلاقًا من مسئوليته الدعوية والتعليمية، بهدف تصحيح المفاهيم المغلوطة، ومحاربة التطرف، وضبط العمل الدعوى، ومواكبة العصر، وقد سلك الأزهر الشريف كل السبل لتحقيق هذه الأهداف، فرحّب بالنقد فى إطار الحفاظ على الثوابت، وأقام حوارًا مجتمعيًا بهدف تحقيق التواصل مع كل فئات المجتمع وخاصة الشباب، وشرع فى إنشاء أكاديمية للدعاة لضبط العمل الدعوى وصقل مهارات الدعاة.
وعقد الأزهر العديد من الندوات مع الشباب بهدف مواجهة الظواهر السلبية التى يتعرض لها المجتمع، ولم يغفل الأزهر عن قضايا المرأة ودورها المهم الذى تؤديه فى بناء الأسر وحماية المجتمع، فنادى فى كل المناسبات الخاصة بالمرأة بتمكينها واهتم بقضاياها اهتمامًا كبيرًا، كقضية التحرش والحجاب والنقاب وتبنى طرحًا حضاريًا ينصف حرية المرأة، وهناك جهود متواصلة لبيت العائلة المصرية ولجنة المصالحات بالأزهر، وذلك برعاية فضيلة الإمام الأكبر، للحفاظ على التعايش السلمى ووأد الفتن وتحقيق سلامة البناء المجتمعى.
كما أرسل الأزهر العديد من القوافل الإنسانية الطبية والإغاثية، إسهامًا فى رفع المعاناة عن أبناء الشعب وتعزيزًا لدوره الإنسانى والدعوى، وحرص فضيلة الإمام الأكبر على نشر ثقافة السلام مكثفًا جهوده لتعميق لغة الحوار مع العالم والمؤسسات الدينية، كما واصل الأزهر الشريف بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين إيفاد قوافل السلام الدولية لقارات العالم بهدف نشر ثقافة السلام.
ومن جهة أخرى أنشأت دار الإفتاء منصة إلكترونية أسهمت فى تقديم الدعم المعرفى والسلوكى بين المسلمين فى مصر وحول العالم.
وإصدار تقرير «حالة الفتوى» وهو تقرير شهرى يشتمل على رصد حالة الفتوى وخاصة الفتاوى الشاذة، وتحليل مضمونها وخطابها وتفنيدها والرد عليها، كما نفذت وزارة الأوقاف خطتها الدعوية خلال العام الحالى، وتمثلت فى تطوير منظومة التدريب والتأهيل من خلال مراكز التدريب والمعسكرات، واستضافة الأئمة المتميزين فى الدورات العلمية بمسجد النور بالعباسية وتكثيف القوافل الدعوية، وإعداد دورات تتناول فقه الواقع وغيره من القضايا التى تساعد على تأهيل الأئمة والدعاة.
ومستهدف أن يكون هناك 2000 واعظة فى المساجد الكبرى، وذلك لنشر الوسطية بين النساء، والتركيز على قضايا الأسرة والمرأة المسلمة، وستشهد الفترة القادمة تفعيل المسجد الجامع، الذى تهدف وزارة الأوقاف أن يكون مركزًا للتنوير ونشر الثقافة الإسلامية، وعقد ندوات علمية كبرى بمشاركة نخبة من كبار العلماء والدعاة، كما تسعى الوزارة لتطوير مناهج المراكز الثقافية ووضع منظومة للدراسة يشرف عليها كبار علماء الأزهر فى مختلف التخصصات.
إن ما تم إنجازه على مستوى الدعوة والإفتاء وعلى مستوى تطوير المناهج وعقد المؤتمرات وتصحيح المفاهيم ونشر الوعى الدينى الصحيح بين المصريين شىء كبير، والمنتظر أكبر، خاصة وأن الشعب المصرى يميل بفطرته للتعايش السلمى والتسامح ونبذ العنف والبُعد عن الطائفية، فمن معالم الشخصية المصرية «الوسطية» التى تبلورت من واقع الطبيعة، فمصر بلد زراعى يجرى فيها النيل واهب الحياة، هذه الوسطية جعلت المصريين لا يميلون للتطرف، فلم تفلح كل حركات التطرف اليمينى أو اليسارى فى إثارة الفتنة أو تقسيم المصريين على أساس العقيدة، لأن المصريين واحد منذ فجر التاريخ مهما اختلفت أصولهم العرقية والدينية.
إن الآمال المطلوبة أكثر مما تحقق، لأن التحديات التى تواجهها مصر كبيرة، فقضية المواطنة التى ترسخ الفهم الصحيح لتعامل المسلم والمسيحى كقطبى أمة واحدة متكافئة متساوية فى الحقوق والواجبات مازالت تحتاج إلى كثير من العمل والتجديد حتى نصل إلى الصورة المثلى التى نتجاوز بها أى فتنة طائفية تُستغل لإحداث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وما شاهدناه من تواجد المسلمين حول الكنائس لمجرد استشعارهم بالخطر المحدق بها، وما شاهدناه من نداء إمام المسجد لإنقاذ كنيسة، وتدافع الناس لا فرق بين مسلم ومسيحى لمحاصرة إرهابى مسلح هو صورة مشرفة ومشهد تاريخى، كل ذلك يمنحنا الأمل فى نجاح تجديد الخطاب الدينى.
وفى إطار تجديد الخطاب الدينى جاء برنامج الحكومة لعام 2018 – 2019 وحتى عام 2022 ليؤكد تلك الرؤية ويدعمها، وذلك بتخصيص 3.1 مليار جنيه لتنفيذ عدد من الحملات والإجراءات التى تضمن نشر الفكر الوسطى، تضمنت تلك الخطة تعيين 6 آلاف من الأئمة المتميزين الجدد بواقع 1500 سنويًا، والتوسع فى مكاتب تحفيظ القرآن الكريم العصرية لبناء شخصية الأطفال بناءً فكريًا وأخلاقيًا سليمًا، بإنشاء 1200 مكتب جديد، بالإضافة إلى إنشاء 800 مدرسة مسجد جامع قرآنية، وإنشاء 240 مدرسة علمية جديدة لتدريس العلوم الشرعية بطريقة مبسطة لرواد المدارس خلال سنوات البرنامج، وذلك بتكلفة إجمالية للبرنامج تبلغ حوالى 1.6 مليار جنيه، ولا شك أن هذا البرنامج الحكومى جهد طيب، لكن هناك مطالب أخرى تدعم نفس التوجه منها رعاية الدولة لقنوات فضائية دينية بشكل مباشر أو غير مباشر لما تمثله من تأثير كبير فى حياة شعب يقيس كل شىء فى حياته بمقياس الحلال والحرام، خاصة وأن الفضائيات الدينية التى توقفت، وكانت التيارات الإسلامية توظفها لخدمة أهدافها من قبل، كانت تمتلك شعبية وتأثيرًا كبيرًا.
وأيضًا مطلوب الدعم الكامل من قبل الدولة لإنشاء وتقوية دعم الصحف والمواقع الإلكترونية المهتمة بالشأن الدينى بما يضمن قوة تأثيرها وتفاعل الجماهير معها.
وفى الختام نؤكد أن الخطاب ليس خطابًا دينيًا بالمعنى الضيق، ولكنه خطاب شامل يبدأ من الدين ويتجه إلى المجتمع والسياسة والاقتصاد، وهناك ضرورة لمعرفة وضع الخطاب الدينى من عملية التجديد الحضارى الشامل لمصر، فإذا كانت مصر تمر بأزمة حضارية، فلماذا يوضع الخطاب الدينى على قائمة الأولويات، وكأن الأزمة مبعثها الخطاب الدينى فقط وليس مبعثها أزمات أخرى كالتعليم والصحة والثقافة والإعلام وغيرها..
ويتصدر الخطاب الدينى الأزمة لأن الشخصية المصرية يؤثر فيها الدين بعمق، وهو عامل مهم وحيوى فى تكوين اتجاهات المصريين ووجهات نظرهم تجاه الحياة، وفى تشكيل منظومة القيم الخاصة بهم، وتأثيره ممتد إلى أمغلب سلوكيات المصريين، فتجديد الخطاب الدينى ضرورة ليكون الدين من أجل تعليم الإنسان الأخلاق والقيم وحُسن المعاملة والضمير والأمانة واحترام الغير والتعايش الحسن معه، وله أيضًا دور كبير فى تحويل الأخلاق من مجرد كلمات إلى قيم وسلوك وحضارة.
ويؤكد إلحاح الرئيس على ضرورة تجديد الخطاب الدينى أننا نواجه خطرًا داهمًا، فما قاله الرئيس السيسى فى هذه القضية فى أكثر من موقف ومكان يؤكد أننا بحاجة ملحة للتجديد، بما يتماشى مع مستجدات العصر، ومواجهة العنف والتطرف بالعقل والمنطق، نظرًا لأهمية وخطورة الخطاب الدينى فى تشكيل عقول الناس وبناء الإنسان.
وهو ما أكدته كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال جلسة «استراتيجية بناء الإنسان المصرى» بفعاليات المؤتمر الوطنى السادس للشباب بجامعة القاهرة بأن: «إصلاح الخطاب الدينى وتعديله وتجديده بات ضرورة مجتمعية ملحة، من أجل الحفاظ على هوية الإنسان المصرى».