الأسبوع الماضي زرت أحد الأصدقاء بمكتبه في قلب القاهرة، وخلال حوار دار بيننا حول التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم.. فجأة وجدت هاتفه يقول «لديك موعد يا سيدي بعد 60 دقيقة من الآن» صوت الهاتف الذي صدر أثار لدي العديد من علامات الاستفهام، صمت للحظات ثم بادرت صديقي متسائلًا: هل لديك فردان من السكرتارية، هذا الصوت صوت رجل، وعندما دخلت مكتبك وجدت سكرتيرة فقط بالخارج.
وكيف يتصل بك ولم أسمع صوتًا لرنين الهاتف.
ابتسم صديقي.. وقال لى: هذا هو السكرتير الشخصي «Siri».
قلت له لماذا يتحدث بهذا الأسلوب؟!
رد صديقي: أى أسلوب تقصد.. العربية الفصحى؛ لقد تدرب على هذا جيدًا.. فهو يقوم بكافة المهام التى أطلبها منه من إرسال بريد إلكترونى وفتح الـ website الخاص بالشركة وتطبيقات الهاتف والاتصال بالأرقام التى أطلبها منه وكتابة التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى التى أُمليه إياها.
وترتيب أجندة المواعيد الخاصة بى، والتقاط الصور التذكارية عندما أطلب منه ذلك.
إنه سكرتير شاطر جدًا ولا يمكن أن يتقاعس عن أداء مهامه الوظيفية.
سألت صديقى: كم يتقاضى راتبًا؟
قال: لا شىء.. كل ذلك يقدمه لى مجانًا ودون أى أعباء مالية.
صمت بعض ثوان لأجد صديقى يتابع قائلًا: تعرف «Siri» ده لا يمكن أن يرد عليك لو استخدمت لفظًا غير مهذب بل يقول لك هذا لفظ غير لائق يا سيدى.
ثم استكمل هذا تطبيق يا صديقى على الهاتف المحمول صممته شركة «apple» خاص بهواتفها وناطق باللغة العربية ولا يكلفك مليما واحدا سوى أن تكون متصلًا بالإنترنت.
إنه أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعى التى يعمل بها العالم منذ فترة ولكنها غابت عنا وما زلنا نتحدث عن العامل البشرى والمعوقات التى يسببها فى العمل.
هذا جزء صغير جدًا مما يعمل به العالم.
(1)
هنا تذكرت شابًا زارنى فى مكتبى منذ 4 سنوات.. شاب من إحدى ضواحى محافظة الجيزة وقتها كان فى المرحلة الثانوية وشارك فى العديد من المسابقات التى يقدمها معهد «جوتة» بالقاهرة وفاز الشاب فى عدد منها، بل إن مسابقة أطلقتها شركة «فيرارى» لتطوير سياراتها وفق نظم الذكاء الاصطناعى وتقدم الشاب للمسابقة ليفوز بها مع ثلاثة شباب من اليابان وألمانيا وبريطانيا، ليصمموا معا مشروع سيارة تستطيع أن تصعد إلى المرفأ الخاص بها (الجراج) أعلى سطح المنزل دون الحاجة لمصعد هيدروليكى.
وعقب حصول الشاب على الثانوية العامة سافر إلى ألمانيا بترشيح من معهد جوته، لاستكمال دراسته هناك.
وجدتنى أتذكره خلال حديث صديقى عن هذا الشخص القابع داخل هاتفه يرتب له مواعيده ويذكره بها بأدب جم ويجرى له عددًا من الأعمال الإدارية ويسهل عليه التواصل مع من يريد.
تذكرته عندما تحدث البروفيسور الهندى «رامجوبال راو» مدير مشروع IIT Delhi. فى الجلسة الافتتاحية للمنتدى العالمى الأول للتعليم العالى وبالبحث العلمى الذى نظمته وزارة التعليم العالى الخميس الماضى وانتهى أمس السبت.
عندما قال: «إن التكنولوجيا البازغة سوف تسحق أجيالًا».
ربطت بين ذلك القول وما عرض فى استراتيجية وزارة التعليم العالى 2030 عن أن 35% من الوظائف الحالية ستختفى خلال 10 سنوات؛ بل إن هناك 47% من الوظائف ستختفى خلال 25 عامًا.
إننا أمام تحد يستوجب أن يقوم كل منا بتطوير أدواته ومهاراته المهنية وفق متطلبات سوق العمل.
الأمر أثار دهشتى فى البداية، ولكنى استرجعت مع نفسى بعض الأفلام التى نشاهدها على اليوتيوب لمخترعات جديدة منها ذلك النموذج للسيارة التى عرضتها شركة فولكس فاجن (الصين) والمصممة على شكل البيضة وتتحرك فوق الطريق دون عجلات وتحلق فى الهواء دون أجنحة. فوق شبكة طرق كهرومغناطيسية بارتفاع قدم أو قدمين.
كما أن قائد السيارة يستطيع أن يتحكم فى حركتها من خلال مفتاح تحكم بجانبه.
(2)
هذه الثورة الصناعية الجديدة التى تجتاح العالم تعد الثورة الصناعية الرابعة؛ يتم خلالها دمج أنظمة آلات يتم التحكم بها إلكترونيًا، ومن أهم مجالاتها الذكاء الاصطناعى، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والحوسبة الفائقة المتنقلة، والروبوتات الذكية، والسيارات ذاتية القيادة، والتحرير الجينى؛ إنها التكنولوجيا البازغة.
الأفرع السابق ذكرها هى أحد عناصرها التى قال عنها الرئيس خلال الجلسة الافتتاحية معقبا عن ما عرض خلال الجلسة «إذا كانت الثورات الصناعية الثلاث قد فاتتنا.. فعلينا أن نتمسك بألا تفوتنا الثورة الصناعية الرابعة.
وبلا شك أن المعطيات والواقع يجعلنا نتساءل هل من الممكن أن نلحق بهذا الركب المتسارع؟ والعالم المتنامى والثورة التى لا تتوقف عن العمل نحو المستقبل فى ظل تطور البحث العلمى وتداعيات تلك المرحلة المهمة.
وإذا علمنا أن الثورة الصناعية الرابعة مبنية على أبحاث الناتو تكنولوجى والذكاء الاصطناعى.. فكان لابد لنا أن نسابق الزمن لنلحق بركب التقدم.. ولم يكن اختيار الرئيس لعام 2019 عاما للتعليم من قبيل الصدفة ولكنه كان ضمن منظومة بدأت مع بداية الفترة الثانية من ولاية الرئيس عندما تحدث قائلًا «إن المرحلة القادمة، هى مرحلة بناء الإنسان، فبدأت بالمنظومة الصحية والآن بالتعليم، بعد أن تم إنشاء بنية تحتية قادرة على أن تكون أحد عناصر وأدوات المشروع الوطنى الكبير.
(3)
تم زيادة عدد الجامعات المصرية لتصل إلى 63 جامعة وأكاديمية وإضافة تخصصات جديدة تتوافق مع متطلبات سوق العمل الذى يرتبط بشكل كامل بتطورات الثورة الصناعية فأدخلت تخصصات الناتو تكنولوجى، والميكا ترونك، والحوسبة الفائقة المتنقلة، والروبوتات الذكية.
وارتفع حجم الأموال المخصصة للتعليم العالى فى الموازنة العامة للدولة من 25 مليار جنيه سنويًا إلى 31.6 مليار جنيه، وزاد حجم المخصصات الاستثمارية من 3.6 مليار إلى 6.9 مليار جنيه فى ظل زيادة أعداد الطلاب بحسب تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ليصل عدد الطلاب المقيدين فى التعليم الجامعى 3.03 مليون طالب.
وهنا كان لا بد من وقفة، إذا كنا بالفعل نريد أن نلحق بركب الثورة الصناعية الرابعة.. فليست الحكومة وحدها المسئولة عن ذلك؛ وإنما وطن بأكمله هو الذى سيدفع بالمشروع المصرى إلى هذا المضمار ويعمل على إحداث قفزات نوعية نحو مستقبل أفضل.
فالطفل المصرى نجده يتفوق على أقرانه على مستوى العالم إذا ما توافرت له البيئة المناسبة.. فقد حصل الطفل المصرى عبد الرحمن حسين البالغ من العمر 13 عاما على جائزة أذكى طفل فى العالم العام الماضى وذلك فى المسابقة العالمية التى أقيمت فى ماليزيا وشاركت فيها أكثر من 70 دولة وهناك الكثيرون مثله.
كذلك شباب الباحثين وطلبة الكليات العملية، وهناك نماذج يصعب حصرها منها د. مصطفى مشرفة وأحمد زويل ويحيى المشد ومصطفى السيد وفاروق الباز والسير مجدى يعقوب، وغيرهم الكثير من النماذج التى سبقت عصرها فى العلم.
وإذا كانت الدولة المصرية فى ظل قيادة الرئيس السيسى تحرص على ذلك وتسعى جاهدة لتوفير المناخ الملائم لتلك المرحلة فقد زاد عدد المبعوثين بنسبة 72% إلى كل من اليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأمريكا.
من أجل نقل الخبرات وما توصل إليه العالم فى مختلف العلوم.
فلابد من أن يكون لنا نحن المواطنين وأولياء الأمور دور فى ذلك، فقد تأسست أول جامعة مصرية بمساهمات المصريين، وكانت جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) أول جامعة فتحت فى ديسمبر 1908 و لتصبح أكبر مصدر للإشعاع العلمى فى مصر والمنطقة.
(4)
هنا أقدم مقترحا لكى يكون لنا نحن المواطنين دور إيجابى فى تلك المنظومة.
فإذا كان عدد موظفى الحكومة بحسب وزارة التخطيط يقترب من 5.2 مليون بالإضافة إلى القطاع الخاص ليصل الإجمالى الى 10 ملايين تقريبًا لماذا لا يقدم كل من كان راتبه الشهرى أقل من 2500 جنيه 10 جنيهات فقط شهريًا من أجل دعم التعليم والبحث العلمى كمساهمة منه فى تطوير ودعم التعليم.
وكل من يصل دخله 5000 جنيه شهريًا يقدم 20 جنيها شهريًا لذات الغرض، أما من يتعدى دخله الشهرى 15 ألف جنيه يتبرع شهريًا بمبلغ 50 جنيها بإجمالى 600 جنيه فى العام تُقدم لنفس الغرض.
ليصل حجم التبرعات فى صندوق دعم التعليم والبحث العلمى سنويًا أكثر من 2 مليار جنيه بالإضافة إلى تبرعات أصحاب الأعمال وهذا دورهم المجتمعى الذى يجب عليهم القيام به وكذلك الفنانين.
أعتقد أننا بذلك نكون قد قدمنا نموذجًا إيجابيًا فى التحرك بنفس الاتجاه الذى تتحرك به الدولة.
ومن هنا أدعو كل من يؤيد تلك الفكرة أن يتواصل معنا للبدء فى تنفيذها، من أجل مستقبل أفضل لأبنائنا، فى ظل عالم لا يعترف سوى بالعلم والمعرفة.
فإذا أردت أن تقيس تقدم الأمم فانظر إلى أى مستوى وصلت من تطور التعليم، فتقدم الأمم يقاس بالعلم، وهو ما يتطلب تضافر الجهود من الجميع من أجل النهوض به، ليس التعليم ما قبل الجامعى فقط، ولكن التعليم الجامعى أيضا وبالتوازى مع ذلك وذاك نعمل أيضًا على النهوض بالبحث العلمى.