صالون الرأي
من يملك شجاعة الاعتذار ؟
By amrمارس 25, 2019, 19:27 م
2616
تلك الزهرة الباسمة.. يبدو وإنها مازالت فى طور تعلم الكلام واكتشاف الأجواء المحيطة بها – رغمًا عنها – وقد ابتلعتنا إشارة مرور طويلة اعتادت أن تقتطع من الأعمار أزمنة هباءً، فأرسلت البنوتة الشموس بسماتها الموسيقية – ساخرة أو ربما لم تتعلم السخرية بعد! وهى ترقب سائق الحافلة العملاقة الذى تخطى حقوق الجميع فى تلك الإشارة وأقصى فعله الكسول أن رفع يساره من خلف نافذة سيارته المتوحشة فى كِبر وخُيلاء فى رسالة صامتة يقنع به الأصاغر أنفسهم بأنها اعتذار، لكن تلك البريئة وجدت فى هذا المتكبر المتجبر وحشا حيوانيا يشبه الفيل عندما يرفع خرطومه ويتوهم المتحذلقون أن الحيوان يُحيّهم، فما كان منها إلا إنها قلدته ووضعت يمينها الصغيرة أمام أنفها إلى أعلى وأسفل مقلدة للفيل والسائق المتشابهين! وعندما أعلنت الإشارة إسدال الستار على ذاك المشهد وكأنها تركت لجمهور الإشارة التكهن بنهاية الرواية، هل هكذا تعلمت الطفلة سلوك الاعتذار؟ أم الاستهتار بالجميع المنسحق للصمت؟ أم ستنمو تلك الفسيلة اليانعة لتتحور شجرة للصبار لا تعى بجرح الآخرين؟ النهايات كثيرة إنما ليس من ضمنها أن يتخيل أحداً من المتبلدين المتجمدين داخل الإشارة أن تلك الطفلة قد تعلمت مفردة (الاعتذار) ومن المحتم أنها لن تنطق بما لم تتعلمه خلال القادم من عمرها.
ورغم أن أعظم المؤلفات الخالدات كفجر الضمير لبريستيد قد أعلنت أن الأخلاق سطعت على الإنسانية مع بدايات الحضارة المصرية، وأن هؤلاء المصريين هم من صاغ وأسس لمعنى الأخلاق وذلك لعلمهم اليقين بأن الإنسان سيخطئ حتما خلال حياته ومن الواجب كبح جماح الخطأ وتقليم السلوك الإنسانى بزينة الأخلاق التى تميز الإنسان عن بقية دواب الأرض، وما كان المصرى القديم لينظم علاقاته مع نفسه ومع الآخرين إلا فى إطار الأخلاق التى تسلم بوجود الخطأ عمداً كان أو بغير قصد، وأيضا تسلم بوجوب العدول عن الخطأ لأن الرجوع عن الخطأ رجوع للإنسانية وترك للحيوانية، تلك كانت المرجعية الأخلاقية التى ميّزت أجدادنا وجعلت منهم أئمة الأخلاق بين الحضارات المتعاقبة، فكان الاعتذار سلوكا متحضرا دال على تأكيد الكائن لإنسانيته وتخليه عن الصفات الدونية للمخلوقات غير الراقية، وإذا تجادل الفلاسفة حول قضية وجود الأفكار وحقيقتها هل هى من صنع العقل الإنسانى أم أن وجودها سابق عليه وقد اكتشفها ذاك العقل كلما تحضر وارتقى، أو بمعنى مقارن هل فكرة الأخلاق لدى الإنسان خارجه عنه وسابقة على وجوده وقد اكتشف بعقله قوانينها؟، أم هى نتاج سلوكياته وخلاصة خبراته التى تحفظ له تميزه على باقى المخلوقات؟، الأمر يسير كما قوانين المادة والطبيعة المنظمة للكون هل هى موجودة بوجود المادة أو الطبيعة ؟ أم إنها سابقة على وجودها وحاكمة لبقائها وفنائها؟ فى النهاية يهمنا فى الأمر مدى تطبيق الإنسان لما يعتقده من أفكار مجردة تنظم درجات ارتقائه وتعطيه الحد الأدنى لمبررات وجوده، فكلما مارس الإنسان الأخلاق كلما نقّى إنسانيته من صفاتها المتدنية المتخلفة البدائية، وأجد من الغريب عندما صاغ محمد أفندى عمر موظف البوستة كتابه (سر تأخر المصريين)1902 ومن بعده جلال أمين (ماذا حدث للمصريين) 1998 وحديثا 2008(ثقوب فى الضمير) لأحمد عكاشة لم يقترب أحد منهم كثيرًا لمفردة الاعتذار على اعتبار أنها من المسلمات فى الشخصية المصرية، إنما ما وجدناه واقعًا معاشًا لا جدال فيه أن تلك المفردة ومادتها اللغوية باتت مجهولة بيننا، غريبة فى معجمنا اليومى، ربما تحورت لتكون أعجمية النطق! أو سقطت منا فى غياهب الجُب المصرى ونحن نلهث خلف أشياء أخرى على اختلاف مستويات أهميتها الحياتية، إذ تسربت منا أخلاقنا تتساقط خلف خطواتنا تتعثر فى الملاحقة وتخطى فى المسير خلفنا حتى تاهت عنا، وهنا حسم الواقع جدلا فلسفيًا فقد فارقتنا أخلاقنا سلوكًا معاشًا وفكرًا مجردًا.
لاشك أن الإنسان خُلق ظلومًا جهولا، إنما عليه الرجوع دائماً لصوابه والعدول عن خطئه فى حق نفسه وحق غيره، نتحدث بأسى عن المجتمعات المتحضرة – وهى تدعيها – فى احترامهم لإشارات المرور دون وجود ممثل النظام وغيرها من سلوكيات أصبحت تلقائية، وبالغوا فى احترام أدميتهم حتى طال الاحترام بقية الموجودات وليس فقط الحيوان بل والنبات والبيئة الجامدة، ورغم أن خلاصة ما وصلوا إليه من رقى إنسانى من نتاج بدايات الحضارات ونحن أولها على الإطلاق ومن ثمار تراكم الخبرات الإنسانية التى لا تعترف بحد سياسى أو منطوق لغوى لأنها محصلة العقل الجمعى البشرى وكنا مشاركين بالنصيب الأكبر فى تخلق الإنسانية بسلوكيات الارتقاء والاعتناق لأفكار التحضر,أتذكر وصفة الطبيب ناجى إذ يُشعِر: يا صفوة الأحباب والخلانِ … عفوًا إذا استعصى عليّ بيانى.
الآن ماذا حدث لنا لماذا لا نعتذر عن السلوك الخاطئ الذى نقترفه فى حق بعضنا البعض؟ لماذا لا نعتذر عن مجرد الفهم الخاطئ لبعضنا البعض حتى وإن لم ينجم عنه فعل؟ هل من رفاهية الأمل أن نعتذر عن حتى الفكر المجرد الخاطئ؟ هل نتجاهل تراجع القادم من الأجيال عن حقيقة الاعتذار؟ هل علّم أحدنا صغيره أن يعتذر لزميله إن أخطأ فى حق من حقوقه؟ هل كررنا مفردة (أنا آسف)، (أنا أعتذر)، (أنا مخطئ) أمام أبنائنا فى بيوتنا، ومرءوسينا فى العمل، أيًا كان موقع العمل ومستواه، وعلمناها لتلاميذنا فى المدرسة، ولطلابنا فى المعاهد العلمية، ونصحناها للمأمومين فى المساجد والكنائس، وإلا كيف يتعلم الصغير احترام الكبير وتوقيره حتى لا نفقد القدوة والنموذج وهو ركن ركين فى منظومة قيم المجتمع ، وكيف يعتقد فى المساواة بينه وبين نظرائه فى الوطن فى الحقوق؟ وكيف يتعلم النشء الاعتذار لمجتمعه إذا رأى قدوته يلقى بالقمامة فى الطرقات العامة ليتعدى على حق الجميع، وأنى له الاعتذار إذا سمع وليه يسب الآخرين بسلاسة ودون غضاضة، وما ننتظر من جيل اعتاد من والديه الخطأ دون تراجع، والفاجعة هى تمرير ثقافة الاستعلاء والصلف الرجعية والعصبية فى التمسك بالموقف وإن كان خطأ بحجة الرجولة للشباب وإثبات الذات للشابات الناشئات من خلال الدراما المسمومة وفقدان الفن لجماله، كلنا نخطئ والقليل يعتذر، القوى فقط من يعتذر، الواثق فى قدراته من يعتذر، المتمسك بإنسانيته هو من يعتذر، فقط من يملك فضيلة الشجاعة يمارس شعيرة الاعتذار، وإذا كان الاعتذار واجب أخلاقى وحق للغير فقبول الاعتذار محتم وأوجب كما قال الشافعى :
إِقبَل مَعاذيرَ مَن يَأتيكَ مُعتَذِراً .. إِن بَرَّ عِندَكَ فيما قالَ أَو فَجَرا
وعلينا الخوف من ردة جاهلية لأبنائنا إذ نسمع منهم (هذا ما وجدنا عليه آبائنا!).