جاء إعلان القاهرة لحل الأزمة الليبية خطوة مهمة من خطوات التحرك المصري لمواجهة تحديات وتهديدات الأمن القومي المصري والعربي في ظل محاولات تركيا المستمرة لزعزعة استقرار المنطقة.
كما جاء التأييد الدولي والعربي لإعلان القاهرة تأكيدًا على وضوح الرؤية المصرية التي تستهدف أمن واستقرار ليبيا من أجل مصلحة الشعب الليبي الذي يعاني منذ 9 سنوات.
لكن ما يحدث في ليبيا من عدم استقرار ليس وليد فترة ما بعد 2011، كما أنه ليس بمستحدث، بل هو استكمال لخطوات بدأت عقب حرب أكتوبر 1973 عندما أدركت القوى الداعمة لإسرائيل ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والاتحاد السوفيتي (روسيا حاليًا) في ذلك الوقت أنه
لا يمكن الحفاظ على المشروع التوسعي الاسرائيلي طالما كانت مصر تتمتع بالقوة، خاصة أن قوة مصر تمثل مظلة لحماية الأمن القومي العربي.
إن استعادة مصر لعافيتها دائمًا ما يربك القوى التى تراودها أحلام توسعية فى المنطقة، لأن قوة الدولة المصرية تظل حجر عثرة فى مواجهة المشروعات الاستعمارية فى المنطقة، الأمر الذى تطلب التخطيط لاستنزاف الدولة المصرية من خلال صناعة تهديدات لها على المحاور الاستراتيجية الثلاث الأخرى، وهو ما يجعلها غير قادرة على المواجهة فى اتجاه استراتيجى واحد، كما حدث فى أكتوبر 1973 (الاتجاه الاستراتيجى الشرقى).
(1)
استند واضعوا هذا المخطط، الذى يستهدف المنطقة بشكل عام ومصر بشكل خاص، إلى ما قالته جولدا مائير عن الوضع فى حرب أكتوبر «إن الشك لم يخالجنى ولو للحظة أن هدف الدول العربية كان ومازال هو تدمير دولة إسرائيل، وأننا حتى لو كنا تراجعنا إلى ما وراء خطوط 1967 إلى بقعة صغيرة لما توقفوا عن محاولة اجتثاثنا».
سُوِّقَت تلك الرؤية للدول المساندة لإسرائيل لتغدق على تل أبيب بمزيد من الدعم العسكرى والسياسى والأمنى.
كانت المعلومات الاستخباراتية والبحوث السياسية والعسكرية لدى القوى الدولية ترى أن الوضع بعد 5 يونيو 1967 فى المنطقة لا يمكن تغييره، وإن تجاوز حتى الحالة النفسية لدى الشعوب العربية قبل20 عامًا، وهو ما جعل الآلة الإعلامية الأمريكية والإسرائيلية فى ذلك الوقت لا تتوقف لحظة عن الحديث عن قوة الجيش الإسرائيلى والتقليل من قدرات الجيش المصرى على المواجهة، رغم العمليات التى نفذها أبطال القوات المسلحة على الجبهة عقب يونيو 67 والعمليات الذى نفذوها خلف خطوط العدو فى نفس الوقت ذاته.
كما غيرت البحرية المصرية أحد أهم النظريات العسكرية فى أكتوبر 67 عندما أغرقت المدمرة الإسرائيلية “إيلات” التى كانت إسرائيل تتباهى بها فى مياه المتوسط.
عقب انتصار أكتوبر اعتذرت جولدا مائير للرئيس السادات قائلة «كنا نظن أن ما تقوله مجرد كلام عن عام الحسم، ولكنه كان حقيقة».
(2)
لم تكن كلمات الاعتذار من رئيسة الحكومة الإسرائيلية سوى بداية مرحلة جديدة فى التعامل مع الدولة المصرية، حيث رسمت خطوات تلك المرحلة دائرة أبحاث شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بالتعاون مع الوحدة (8200) قبل عرضها على مجلس الأمن الوطنى الإسرائيلي.
أصبح التحرك نحو الاتجاهات التى حددتها الورقة المقدمة من دائرة الأبحاث أكثر أهمية بعد نجاح الرئيس المصرى أنور السادات فى كسب التأييد الدولى لعملية السلام، كما أن انتصار مصر فى حرب أكتوبر كشف مجموعة من النقاط التى تغافلت عنها إسرائيل خلال 6 سنوات (67 – 73)
تم التحرك على عدة محاور:
المحور الأول: ضرورة التعاون مع بعض دول الجوار للمنطقة العربية، خاصة من لديهم مشاريع توسعية، بهدف إحداث توتر دائم فى المنطقة، فى الوقت الذى تستطيع فيه إسرائيل وحلفائها السيطرة على تلك الدول وتحطيم تلك المشاريع عندما ترغب فى ذلك، فتم التحرك على المحور الإيرانى والمحور التركى.
المحور الثانى: العمل على إدخال الدولة المصرية فى أزمات وتهديد استقرارها كى لا تلتفت إلى عملية التنمية بما يؤثر على حالة الرضا الشعبى عن نظام الحكم ويزيد من قوة وصلابة الشعب خلف قيادته.
المحور الثالث: ضرورة فتح أكثر من جبهة لتمثل تهديدًا للدولة المصرية، مما يترتب عليه تشتيت قدرات الدولة وعدم قدرتها على المواجهة مما يخفف الضغط على المحور الاستراتيجى الشرقى (الحدود المصرية الفلسطينية).
المحور الرابع: لا يعنى توقيع إسرائيل معاهدة السلام مع مصر، حال حدوثه، نهاية الصراع، لكنه مرحلة جديدة من الصراع باستخدام قوى أخرى (داخلية وخارجية) وإشعال الأزمات داخل الدولة المصرية، وذلك بدعم الحليف الاستراتيجى لإسرائيل (الولايات المتحدة الامريكية).
المحور الخامس: إشعال الموقف فى دول الجوار خاصة التى تعتبر امتدادًا للأمن القومى المصرى والعمق الاستراتيجى لها (ليبيا، السودان، إثيوبيا).
المحور السادس: الدفع بمصر للانزلاق فى صراع عسكرى خارجي، مما يجعلها غير قادرة على المواجهة، وإعادة سيناريو ما حدث فى 67، بسقوط مصر فى مستنقع اليمن، الذى كان أحد أسباب نكسة يونيو.
المحور السابع: استخدام الآلة الإعلامية للنيل من الروح المعنوية لشعوب المنطقة، واستمرار التأكيد على عدم الثقة فى القيادة، مما يخلق حالة من الرفض الدائم لقراراتها.
المحور الثامن: العمل على تهميش القضية الفلسطينية التى تعد أحد أهم الملفات السياسية الخارجية المصرية وتضعها مصر على قمة أولوياتها (من خلال إشعال أزمات المنطقة العربية).
( 3 )
بدأت أولى خطوات التحرك مبكرًا لتنفيذ توصيات تلك الورقة، بإحداث أزمة بين مصر ومحيطها العربى (ليبيا) التى يمتد خط الحدود الفاصلة بينها وبين مصر لمسافة 1115 كيلومتر، مما يجعل أية قلاقل على تلك الحدود تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصرى.
استغلت الولايات المتحدة وإسرائيل أحد الأوراق القديمة التى سبقت معركة الكرامة، وهو المقترح الذى تقدم به القذافى للرئيس السادات فى 26 يوليو 1972 للوحدة مع مصر، وقبله الرئيس السادات فى 31 يوليو من نفس العام، وسافر إلى بنغازى فى 2 أغسطس من نفس العام.
اتفق الرئيس السادات على الانتظار لتنفيذ الوحدة خلال عام أو يزيد، خاصة أن مصر كانت لا تزال تستعد لاسترداد أرضها المحتلة.
فى 27 أغسطس 1973 زار القذافى القاهرة فى زيارة لم يخطر بها أحد، وكان الرئيس السادات فى ذلك الوقت يزور السعودية وسوريا وقطر، وعندما عاد من الزيارة التقى الرئيس القذافى فى قرية ميت أبو الكوم، وتم الاتفاق على إعداد وثيقة مبدأ الوحدة خلال ثلاثة أشهر وإجراء استفتاء عليها.
خلال حرب أكتوبر، وتحديدًا أثناء الثغرة، زار القذافى القاهرة واستقبله الرئيس السادات فى قصر الطاهرة، الذى كان متخذًا منه غرفة للعمليات، وطلب القذافى من السادات أن يطلعه على غرفة العمليات الموجودة فى القصر، ولكنه بحسب حديث الرئيس السادات غضب، لأنه لم ير أى تقدمًا بخصوص وثيقة مبدأ الوحدة، خاصة أنه جاء إلى مصر مخاطرًا بحياته (الجملة التى رددها القذافى كثيرًا ليعبر بها عن غضبه أمام الرئيس السادات).
شرح له الرئيس السادات تفاصيل الوضع فى الثغرة ليجد القذافى نفسه أمام معلومات مختلفة عن المعلومات التى قدمها له مستشاروه، بأن الثغرة ستدفع بمصر إلى الهزيمة فى الحرب، وقال القذافى للسادات “لم يستشرنى أحد فى الحرب، ولو تمت استشارتى لكان لى رأى آخر يجنب الجيش المصرى الهزيمة.”
عاد القذافى إلى طرابلس ولكن كانت ليبيا قد أطلقت، من خلال إحدى إذاعتها، نداءً للجيش الثالث الميدانى تطالبه بالثورة على حكومته، وهو ما ذكره اللواء أحمد بدوى عندما كان قائدًا للجيش الثالث الميدانى فى ديسمبر 73.
انتهت المعركة وانتصرت مصر، ولم تبتلعها الثغرة المزعومة التى أبرأ القذافى ذمته منها، وتم فض الاشتباك، ليثير القذافى أزمة بدعوى تطبيق الوحدة وبالتحديد فى 21 يوليو 77، عندما قام القوات الليبية بالاعتداء على إحدى نقاط حرس الحدود بين مصر وليبيا، وهو ما واجهته مصر بكل قوة، وتم تدمير قواته وأسر عدد منه؛ سبق ذلك محاولة اغتيال السفير الأمريكى فى القاهرة فى 18 و19 يناير 1977 على يد مجموعة من عناصر جماعة التكفير والهجرة، إلا أن العملية فشلت، وكان الهدف ضرب مسار عملية السلام.
حاول القذافى أكثر من مرة استخدام عناصر التكفير والهجرة للقيام بعمليات إرهابية داخل مصر، بل واعتبر القذافى أن اغتيال الرئيس الشهيد محمد أنور السادات ليس عملًا إرهابيًا، بل هو بمثابة تنفيذ حكم إعدام، وأعرب عن ارتياحه لذلك من الناحية السياسية، مما يدلل على استخدام القوى الخارجية للقذافى ونظامه لتهديد استقرار الدولة المصرية وزعزعة استقرار المحور الاستراتيجى الغربي.
استمر القذافى فى تربية تلك العناصر الإرهابية بهدف استغلالها فى الوقت المناسب، إلا أن تلك العناصر سرعان ما انقلبت عليه، وزاد خطر التنظيمات الإرهابية.
مع قوة شوكة التنظيمات الجهادية فى ليبيا، وتهديدها للنظام القذافي، خاصة بعد عودة من سموا بالمجاهدين فى أفغانستان 1989، استعان القذافى بالعصابات والمرتزقة لمواجهتهم ولكنهم فشلوا فى ذلك، خاصة بعد أن قويت شوكتهم (التنظيمات الإرهابية)، وباتوا يهددونه شخصيًا.
(أسس عبد الحكيم بلحاج الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة فى بداية التسعينيات بعد عودته من أفغانستان، وسافر إلى 22 دولة أبرزها: أفغانستان، باكستان، تركيا، السودان، ثم عاد إلى ليبيا عام 1994 وبدأ إعادة ترتيب الجماعة وتدريبها بالجبل الأخضر للتجهيز لعمل عسكرى ضد الدولة الليبية، لكن النظام استبق الجماعة بضرب مراكز التدريب عام 1995، وقتل أميرها عبد الرحمن حطاب، وتمكن عبد الحكيم بلحاج من مغادرة ليبيا والعودة إلى أفغانستان.)
ولأن القذافى يدرك العلاقة بين تلك التنظيمات وكلا من بريطانيا والولايات المتحدة ، فقد طالب الدولتين فى أوائل التسعينيات بضرورة التدخل لمساعدة ليبيا فى القبض على قيادات التنظيم الجهادى وعلى رأسهم عبد الحكيم بلحاج الذى ترأس المجلس العسكرى فى طرابلس عام 2011.
بالفعل تدخلت المخابرات البريطانية “MI6” والمخابرات الأمريكية مقابل تخلى ليبيا عن البرنامج النووى والزج بتلك القيادات الإرهابية إلى سجون القذافي، ليس انتصارًا للقذافى ولكن لاستخدامهم فى التوقيت المناسب.
تمت العملية واعتُقِل بلحاج فى ماليزيا فى فبراير 2004 عن طريق مكتب الجوازات والهجرة بتدخل من المخابرات الأمريكية، ثم ترحيله إلى بانكوك للتحقيق معه من جانب وكالة المخابرات الأمريكية “CIA”؛ وبعد اعتقاله فى غوانتانامو تم ترحيله إلى ليبيا فى العام ذاته، وبقى فى السجن حتى عام 2010 قبل خروجه بموجب عفو بعدما توسط له قيادات إخوانية أبرزها على الصلابى ويوسف القرضاوي.
نواصل في العدد القادم استكمال تفاصيل المشهد الليبي وكيف تم تجهيزه ليصبح إحدى المناطق الملتهبة لتحويل المحور الاستراتيجي الغربي إلى نقطة تهديد للأمن القومي المصري.