صالون الرأي
المعجنة!
By mkamalديسمبر 02, 2018, 15:40 م
1951
من منكم من أصول ريفية.. مثلى سواء أكان من بحرى أم من الصعيد يعلم ما معنى «المعجنة»!
أما الأخوة أصحاب «الياقات البيضاء» فنقول لهم إن المعجنة عبارة عن «راتش» المبانى، أى تراب وتبن وعفش وبعض الحصى.. وتجمع كل هذه الأشياء مع بعضها ويصب عليها الماء، ويتم خلطها وعجنها مع بعضها بالأيدى أو بالأرجل، ثم يعاد استخدامها كقوالب من الطوب اللبنى، أو بتمحير المبنى الريفى وكأنها أسمنت!
المهم أنه يمكن استخدام ناتج هذه المعجنة بعد إعادة تأهيله فى بناء صروح جديدة.. قوية وجميلة وصالحة للاستخدام.. سواء كان ذلك فى صورة قصر أو منزل أو مجرد سور لأرض فضاء.
هذا ما فهمته بعد مشاهدة مسرحية «المعجنة» التى كتبها د. سامح مهران، والتى تعرض حاليا على خشبة المسرح القومى العريق.
حيث قدم لنا المؤلف فى الفصل الأول أسرة مصرية تعيش فى حى شعبى، تعانى من بخل الأب المنحل أخلاقيا، وأم تركت المنزل لتخدم فى بيت رجل طيب (الحلوانى) الذى أوصاها بالاهتمام بابنته الوحيدة (تحفة)، بينما الابن (مفتاح) يداعب صديقته ويتهرب من الزواج منها، بينما شقيقته (حكاية) تخفى صديقها تحت السرير!
وعندما يحضر الأب إلى المنزل فى ساعات الليل المتأخر ينكشف «المستخبى» ويبان!، ولأن «الانحلال» سمة الأسرة جميعها، يحاول الأب إغواء صديقة ابنه وتسارع هى بالزواج منه بعد أن علمت بثرائه الفاحش وأمواله المكنوزة!
ثم نفاجأ بحضور الأم بصحبة الفتاة الصغيرة بنت مخدومها ويدور «حوار المعايرة بين جميع أفراد الأسرة حول البخل والانحلال وعنف التعامل، فتدعو الفتاة على الأب بالوفاة، فيصاب بأزمة قلبية ويموت!
حتى الآن.. كنا نتعرف على الأسرة وأحوال أفرادها، وبدأ الفصل الثانى ببحث الأسرة عن أموال الأب المخبأة وخاب ظنهم ولم يعثروا على شىء، فيستدعوا أحد الشيوخ لتحضير «الجن» الذى سيكتشف الكنز!
ونكتشف أن «الشيخ» مفتح يبدو فى مظهر الضرير اللعوب، ومع ذلك يحاول وينجح فى تحضير «روح» الأب، وتظهر الروح فى صورة «فرعون» يؤنب أفراد الأسرة على ما آل إليه حالهم، ثم يحاول إغراء البنت التى ترغب فى الفرح والسترة بالزواج منه، وتصعد معه إلى المقبرة، ولكن تسارع الأسرة بالاستعانة بالشرطة والإسعاف فيعيدانها إلى «الواقع» مرة أخرى، ويتم زواجها من حبيبها وتتم زفة العروس على أنغام وصوت الفنان على الحجار.. بأغنية «أنت المدد»!
هذه هى «حدوتة» المسرحية باختصار، وبما أنى لست ناقدًا فنيًا مثل د. ياسمين فراج أستاذ النقد الموسيقى بأكاديمية الفنون، ومثل صديقى جرجس شكرى الذى كتب عن المسرحية بإسقاطاتها وهجومها على التاريخ الفرعونى.. إلخ، فإننى سأركز على ما فهمته كمتذوق للشعر والمسرح.
وأعتقد أن المؤلف نجح فى رسم صورة حقيقية لما يعانيه بعض أهلنا من قاطنى الأحياء الشعبية، وخاصة عندما يكون رب الأسرة لاهيا وبخيلا، وعندما تعتقد الأم أنها تنجو من هذا الجحيم بهروبها من المنزل، وتترك أبنائها يصارعون أمواج الحاضر البائس والمستقبل الغامض.
والنتيجة المتوقعة فى مثل هذه الحالة أن يحاول الأبناء البحث عن متعة مؤقتة عوضا عن تحقيق رغباتهم المشروعة.. مثل كل الشباب والفتيات!
واستكمالا لـ «الصورة» لما يحدث فى تلك الأحياء، فهذا الشيخ مدعى العمى، يحاول مساعدة الأسرة فى البحث عن الأموال المخبأة.. والتى لم تظهر حتى نهاية المسرحية!
فهل كان المؤلف «يرمز» إلى مصر بعد الانفتاح وتدهور أحوال كثير من الأسر البسيطة فيها، لا أعلم.. فالمعنى فى بطن الكاتب!.. ولكننى فهمت ماذا يقصد بالمعجنة التى أشرت إليها فى بداية المقال.
ولست أعلم هل عودة روح الأب فى صورة «فرعون» من الماضى تحميه قوات أو ميليشيات مسلحة!، ويحاول العودة بالأسرة المصرية إلى عالمه الخاص، هل كان المؤلف يقصد بذلك الإخوان الذين كانوا يرغبون بالعودة بنا إلى الماضى؟ حيث السمع والطاعة العمياء إلى المرشد العام؟! أم أنه كان هجوما على «التاريخ»؟ مرة أخرى لا أملك سوى القول بأن المعنى فى بطن الكاتب!
ولكن أعجبنى «اللقطة» الختامية للمسرحية حيث تمكنت القوة ممثلة فى ضابط الشرطة ومعها العلم ممثل فى طبيب الإسعاف، فى العودة إلى مصر «البنت حياة» إلى الحاضر وإنقاذها من محاولات «الاختطاف» إلى الماضى!
فهل كان المؤلف يقصد بتلك «اللقطة» الإشارة إلى ثورة 30 يونيو – كما يقول صديقى – مصباح قطب؟ لا أعلم.. ولكن ربما!
على أية حال.. وبعيدًا عن الرمز.. والإسقاط.. وكل أدوات النُقّاد المسرحيين، فقد استمتعت بمشاهدة المسرحية، حيث أداء جميل حيوى من ممثلين شباب، ورقصات تعبيرية معبرة عن الأحداث، وموسيقى ناعمة مناسبة لحركة الممثلين.
ثم ديكور مبهر برؤية فنية معبرة سواء منزل الأسرة فى الفصل الأول، أو مقبرة الفرعون فى الفصل الثانى، ناهيك عن توزيع الأضواء على خشبة المسرح والتى أحسن المخرج الواعد أحمد رجب استخدامها.
والخلاصة أن «المعجنة» التى كانت فيها مصر قبل 30 يونيو – إن صح الرمز – أعيد هيكلتها وجارى حُسن استخدام مكوناتها، والأهم أن مصر فاقت من غفوتها ولم تستسلم لمحاولات جذبها للماضى التعيس.. فنهضت مستبشرة سعيدة.. لتبدأ من جديد.. وكما غنت فيروز:
مصر.. عادت شمسك الذهبى.