رئيس التحرير
77 عامًا على النكبة.. وجراح فلسطين لم تندمل
By m kamalمايو 18, 2025, 16:27 م
539
كأن الزمان يعيد عقارب ساعته بقوة إلى الخلف في مشهد دراماتيكي، يؤكد أن العالم لا يعرف سوى لغة القوة.
قبل 77 عامًا من الآن كانت الدولة الفلسطينية تشهد أكبر عملية اغتصاب لأرضها في التاريخ الحديث، وذلك بعد صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 في نوفمبر 1947 الذي قضى بتقسيم فلسطين، ليعطي مَن لا يملك لمَن لا يستحق.
في الخامس عشر من مايو من كل عام، يعود الفلسطينيون إلى جرحهم المفتوح، إلى ذاكرتهم التي لم تندمل منذ 77 عامًا.
إنها ذكرى النكبة؛ الكارثة الكبرى التي حلَّت بالشعب الفلسطيني منذ عام 1948، حين تحوَّلت أكثر من 500 قرية إلى رماد، وهُجّر أكثر من 750 ألف فلسطيني من أرضهم، وتأسست دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني.
لكن النكبة، برغم أرقامها وصورها المحفورة، ليست مجرد صفحة من الماضي، بل حدث مستمر يتجدد مع كل عدوان، ومع كل سياسة استيطان وتهويد وتشريد.
فعقب القرار الأممى الذى لاقى موجة رفض عربية عارمة، انتفض العرب للمواجهة، لكن الهزيمة التى لحقت بهم، وترتيبات المشهد كانت تسير باتجاه محدد وهو أن تغتصب تلك العصابات الصهيونية المستقدمة من دول شتى، الدولة الفلسطينية من أصحابها.
عمليات تسير فى خطوط متوازية بهدف الانقضاض على الدولة الفلسطينية بالكامل لصالح إسرائيل.
(1)
بدأت العصابات الصهيونية تشكيل حكومة مؤقتة، برغم الحرب الدائرة بينها وبين العرب، وتقدمت بطلب للانضمام للأمم المتحدة، فى ذلك الوقت كانت دول المواجهة قد دفعت بجيوشها نحو الأرض المحتلة فى 15 مايو 1948 لفرض السيطرة على كامل الأراضى الفلسطينية.
لكن النتيجة لم تكن سوى مزيد من الاحتلال والتوسع الإسرائيلى على حساب الأراضى الفلسطينية بعد حرب استمرت لمدة 14 شهرًا، واستشهد خلالها أكثر من 15000 شهيد فلسطينى وعربي، وهُجّر أكثر من نصف الشعب الفلسطينى فى ذلك الوقت (55%) من ديارهم إلى الأردن وسوريا ولبنان ومناطق أخرى وتم تدمير معظم القرى الفلسطينية.

توسعت العصابات اليهودية لتسيطر على أكثر من 78% من الأراضى الفلسطينية، فى الوقت ذاته وأثناء المواجهات العسكرية أعادت إسرائيل طلبها للأمم المتحدة للانضمام كدولة يتم الاعتراف بها 11 مايو 1949 بعد أن تعهدت بتطبيق قرارى الجمعية الصادر 29 نوفمبر 1947 (قرار تقسيم فلسطين) و11 ديسمبر 1948 (قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين) وهذا ما لم يحدث حتى الآن.
ليست النكبة مجرد “حدث”، بل عملية تطهير عرقى ممنهجة بدأتها العصابات الصهيونية، قبل إعلان قيام إسرائيل بأشهر، وبلغت ذروتها بعد انسحاب القوات البريطانية فى مايو 1948، إنما هو استمرار التوسع والاستيطان والتطهير العرقى للشعب الفلسطينى صاحب الأرض.
رغم أن الأمم المتحدة أصدرت القرار 194 الذى ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة، فإن إسرائيل رفضت تنفيذه، ولا تزال تتعامل مع القضية وكأنها “انتهت”، فى حين أن النكبة، عمليًا، لا تزال تحدث يوميًا فى القدس، والخليل، وغزة، وفى كل مخيم للاجئين.
واليوم، فى ظل المجازر الجارية فى قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، تبدو النكبة وكأنها لم تنتهِ أبدًا.
بل إن الفلسطينيين يواجهون نسخة جديدة منها، أكثر وحشية وأشد قسوة، فى ظل عجز عالمى ومحاولات عربية لوقف تلك الحرب لكن النتيجة غير ذلك، مزيد من المجازر.
فهل تغير شيء منذ 1948؟! أم أن التاريخ يعيد نفسه بوجوه وأدوات جديدة؟!
فالنكبة لم تكن مجرد نكسة جغرافية، بل انفجارٌ وجودى طال كل مناحى الحياة الفلسطينية، فالفلسطينى الذى تحول لاجئًا فى المخيمات، ظل يحمل مفتاح بيته ومفتاح عودته، لكنه ظل أيضًا يتنقَّل بين نكبات متلاحقة: نكسة 1967، مذابح صبرا وشاتيلا، اجتياح بيروت، الانتفاضات، حصار غزة، حتى وصلنا إلى أكبر عملية إبادة جماعية منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن.
اليوم، يعيش قطاع غزة نكبة جديدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ تجاوز عدد الشهداء 53 ألف شهيد (حتى مايو 2025)، أغلبهم من الأطفال والنساء، و125 ألف مصاب، وملايين هجّروا قسرًا من شمال غزة إلى الجنوب، ثم من الجنوب إلى رفح، ثم لا مكان آمن فى أى مكان، إنه التهجير القسرى بعينه، والمجازر الجماعية على مرأى العالم، الذى يكتفى بالتنديد الخجول، أو التواطؤ الصريح كما فى حالة بعض القوى الدولية.
(2)
فى خضم هذه الذكرى الدامية، جاءت زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للمنطقة، والتى شملت السعودية وقطر والإمارات، تحدث الرئيس الأمريكى عن ضرورة وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بدعوى أنه ليس من المعقول أن نرى هذا الكم من الضحايا من الجانبين (روسيا وأوكرانيا) ولا يتم العمل عن إنهاء الحرب ووقف الدعم الأمريكى لأوكرانيا بعد أن حصلت على دعم 350 مليار دولار لمواصلة المواجهة.
لكن الرئيس الأمريكى لم يزن بنفس الميزان ما تقوم به إسرائيل تجاه الشعب الفلسطينى وعملية الإبادة الجماعية الذى لا تنكرها عين.
فلم يتخذ ترامب خطوات جادة بشأن وقف إطلاق النار فى غزة، حتى بعد أن قامت حماس بإطلاق سراح الرهينة الإسرائيلى الأمريكى عيدان ألكسندر، أو حتى الضغط على الجانب الإسرائيلى للسماح بوصول المساعدات الإنسانية للفلسطينيين فى قطاع غزة، ووقف علميات التجويع التى تنتهجها إسرائيل.
لقد تحدث فقط عن الاستثمار الأمريكى لغزة، وهو ما تحدثت عنه وحذرت منه فى العدد الماضى عقب استطلاع الرأى المهندَّس لإتمام مخطط التهجير وإظهار صورة غير حقيقية حول رغبة نصف سكان غزة فى ترك أراضيهم، وهو ما لن يحدث بل سيظل أبناء الشعب الفلسطينى صامدين على أرضهم رغم النكبات المتكررة لكن المقاومة حتمًا بإذن الله ستنتصر، لأن الأرض لأصحابها.
زيارة دونالد ترامب حصد خلالها حسب تصريحاته ما يقارب 2 تريليون دولار من الاستثمارات، ستخلق داخل الولايات المتحدة الأمريكية ما يقارب من 2.5 مليون فرصة عمل حسب تصريحات الرئيس الأمريكى فى ختام زيارته للدوحة لتخفيض معدل البطالة.
زيارة ترامب للمنطقة فى ذكرى النكبة، والذى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعترف بها عاصمة لإسرائيل، ليست بريئة، فهى تذكير بأن الدعم الأمريكى لإسرائيل ليس طارئًا، بل جزءًا من بنية استراتيجية ثابتة، وخطابه الصارم تجاه الفلسطينيين خلال رئاسته السابقة، وتقديمه خطة “صفقة القرن” ثم خطة التهجير لتصفية القضية، جعلا منه رمزًا من رموز التصفية السياسية للقضية الفلسطينية.
زيارته اليوم تأتى فى ظل مجازر متواصلة، ما يجعلها بمثابة صفعة للضحايا، وتأكيدًا على شراكة واشنطن فى إبقاء النكبة حيّة.
(3)
وسط هذه التطورات، جاءت القمة العربية المنعقدة فى العاصمة العراقية بغداد محاولة للملمة المواقف العربية، لكنها فى الجوهر لم تُحدث فارقًا يُذكر، البيان الختامى الذى سيصدر بعد صدور المجلة بساعات أظنه سيحمل “إدانة للعدوان الإسرائيلي”، ودعوة لوقف إطلاق النار، وتأكيدًا على الدعم الإنسانى للفلسطينيين، لكن على الأرض لا توجد آليات ضغط حقيقية، ولا قرارات قابلة للتنفيذ، فى ظل استمرار دعم الولايات المتحدة لإسرائيل لمواصلة الحرب.
العراق، ورغم ما يمر به من تحديات داخلية، حاول استعادة دوره القومى باستضافة القمة، للتأكيد على استقرار العراق بعد سنوات من الفوضى والانقسام والتهديدات الأمنية من قبل التنظيمات الإرهابية.
ويبقى السؤال: ما قيمة القمم العربية إذا كانت لا تستطيع وقف نزيف غزة ولا وقف التطبيع ولا حتى حماية القدس من التهويد؟!
إننا وبعد 77 عامًا من النكبة الكبرى ووسط ركام البيوت فى رفح، ودماء الأطفال فى جباليا، وخان يونس ترتفع أصوات اللاجئين من جديد: “سنعود”، هذه العبارة التى طالما قيل إنها عاطفية، صارت فى وعى الأجيال الجديدة مسألة هوية وكرامة ووجود.
النكبة اليوم ليست فقط ذكرى لاجئين ماتوا فى مخيماتهم، بل قضية شعب يقاوم الإبادة فى كل لحظة. فالفلسطيني، الذى رفض الخضوع فى 1948، هو نفسه الذى يقاوم فى جنين، ويُحاصر فى غزة، ويُطارد فى القدس والضفة، ويُحارب من أجل وجوده فى الشتات.
إن إحياء ذكرى النكبة ليس مجرد طقس نضالي، ولا مناسبة عابرة، بل هو تأكيد على استمرار المعركة التاريخية بين الحق والباطل، بين شعب يُحارب كى يعيش على أرضه، وقوة احتلال تُمارس كل أشكال التهجير والتطهير العرقى بمساندة دول كبرى.
من يقف اليوم مع الفلسطينيين فى غزة، إنما يقف فى وجه النكبة، فى وجه الصمت، فى وجه التواطؤ وغياب الضمير العالمى.
كلمة أخيرة
فى ذكرى النكبة، لا بد أن نتجاوز البكاء على الأطلال إلى موقف واضح.
لا تطبيع مع مَن ينكر حق الفلسطينيين فى الحياة والعودة.
لا سلام يُفرض بالسلاح والدولارات إنما بإعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس واستعادة الحق.
لا نسيان ولا غفران للمجازر.
ولابد من تحرك دولى وشعبى حقيقى لوقف آلة القتل الإسرائيلية.
فالفلسطينى لا يطلب المستحيل، بل العدالة: أن يعود مَن طُرد، أن يُحاكم من قتل، أن تُحرر الأرض، وألا تبقى النكبة حدثًا متجددًا كل جيل.
فلسطين لم تسقط، لأنها لم تستسلم، والحق لا يُنسى مهما طال الزمن.
النكبة ليست نهاية.. بل بداية طويلة لمقاومة لم تنتهِ.