نجوم وفنون
«جنيات إنيشيرين».. بشر مثيرون للتعاطف
By amrديسمبر 19, 2022, 16:19 م
558
محمود عبد الشكور
هذه مغامرة مدهشة رغم غرابة اسم الفيلم، وغرابة الحدث المحوري الذي يدور حوله، ورغم أن كثيرين قد يرون في تفاصيل الحكاية أجزاء صادمة ومروعة.
“جنيّات إنيشرين” من كتابة وإخراج مارتن ماكدوناه، وبطولة كولن فاريل، هو العمل الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو، وأفضل تمثيل دور أول رجال، في مهرجان فينسيا 2022، ولكن أهم من الجوائز، وما سيجعل الفيلم باقيا ومؤثرا حقا هو نجاح مؤلف الفيلم مخرجه قي أن يقدم فكرة إنسانية، من خلال شخصيات أجاد رسم تفاصيلها، وعبر مزيج من الكوميديا والتراجيديا والعبث معا.
الحدث الغريب الذي يدور حوله الفيلم هو صداقة بين رجلين يرغب أحد أطرافها فى إنهائها، ويصر الطرف الآخر على أن يحافظ عليها، ومن خلال هذا الصراع الغريب، نرى صورة كاملة لمجتمع قرية أيرلندية منعزلة فى جزيرة فى العام 1923، واختيار العام مقصود لأنها سنة الحرب الأهلية فى أيرلندا.
أهل الجزيرة يشاهدون آثار الحرب من بعيد، ويقرأون أخبارها من خلال الصحف التي تصل أحيانا، ولكن العزلة هي عنوان كل شيء: المكان، والبشر، والحياة كلها، ومن هنا يزيد إصرار بطل الفيلم بادريك، الراعي الفقير، على استمرار صداقته لـ كالم، الموسيقار العجوز، الذي قرر أن يبتعد عن بادريك، للتفرغ لعمل مقطوعة موسيقية بعنوان “جنيّات إنيشرين”، ولأنه أدرك أن صديقه البسيط ثرثار وتافه، ويضيع وقته فيما لا يفيد.
ورغم أن بادريك، بأداء كولن فاريل الفذ، لديه أخت لم تتزوج تدعى شوبان، ولديه صديق أخر يسيء والده معاملته يدعى دومينيك، ورغم أن بادريك يحب حيواناته، ولديه حمارة أقرب إلى صديقة تعيش معه فى البيت، إلا أنه لا يعرف لماذا كرهه صديقه فجأة؟ ولا لماذا انتهت صداقته مع شخص لم يكن يفترق عنه؟ ويكاد يبدو بادريك غير قادر أصلا على تصور حياته بدون كالم الموسيقار.
الحقيقة أن النماذج الأربعة: بادريك وكالم، وشوبان ودومينيك، كائنات تبحث عن هدف ومعنى، وتثير التعاطف بسبب عزلتها ووحدتها ورتابة حياتها، والفيلم عن الأربعة معا، مع أن حكاية بادريك و كالم تتصدر المشهد.
صراع الشخصيات يبدأ بتغير ولو بسيط يشعرها بالتعاسة، بعد أن ظلت لسنوات متكيفة مع هذه التعاسة، أو غير مدركة لها، أو تدركها وتتجاهلها، وسيتحقق هذا التغير البسيط برفض كالم لصداقة بادريك، وبرفض دومينيك لحب شوبان.
هنا سيدرك بادريك تعاسته، وسيواجهها، وسيطارد كالم فى كل مكان، لكي يفهم ما يغضبه منه، بل سيقوم بطلب الوساطة من أخته ومن قس القرية، لدفع كالم إلى استعادة الصداقة معه، وسيتطور الأمر إلى مواجهة عنيفة، ثم إلى حرق منزل كالم.
أما دومينيك البائس المهمش، فيؤدي رفض شوبان له إلى انتحاره غرقا، وكأن العلاقات البسيطة، التي رسمها السيناريو البارع، ليست مجرد علاقات عادية، وإنما هي ترجمة لمأزق الوحدة والفراغ واللا معنى، والذي يدركه الإنسان، فيصيبه الجنون، وكان من قبل متصالحا معه، ومتجاهلا له، لم يكن ممكنا أن تتطور فكرة بسيطة إلى معنى فلسفى معقد، وأن نبدأ بالضحك وننتهي إلى التعاطف والرثاء، لولا أمرين هامين: الأول هو الجزيرة كمكان منعزل نجح المخرج فى استغلاله، لخلق علاقة بصرية مستمرة تبرز ضآلة الإنسان، وعزلته، ووحدته، وكأن أهل القرية محاصرون بالماء وبالحرب، وعليهم أن يعانوا من التكرار اليومي، ومن خفة العادي والتافه، وهي سمة واضحة حتى فى الشخصيات المساعدة، مثل صاحبة محل البقالة، التي لا تفعل شيئا سوى تصيّد الأخبار، ومثل العجوز القبيحة التي تشبه ساحرات شكسبير، وهي التي ستتنبأ بوقوع كارثة، ومثل والد الشاب دومينيك، الذي يعمل ضابطا، وهو رجل شديد القسوة، يدفعه الملل إلى السفر ذات يوم لمشاهدة عملية إعدام أشخاص، دون أن يعرف أي شيء عن جريمتهم، المهم فقط أن يشاهد عملية الإعدام !
الأمر الثاني والمحوري وهو رسم معالم الشخصيات الأربعة بكل تفاصيلها، واختلاف أهدافها لإنقاذ روحها من الأسى، وإنقاذ عقلها من الجنون، فبينما يرى بادريك أن معنى وجوده وحياته وإنقاذ روحه فى الصداقة، وفى العلاقات الإنسانية، فإن كالم يرى أن الخلود والقيمة فى أن يؤلف قطعة موسيقية، بعد أن ضاعت حياته على جزيرة تافهة، وبينما ترى شوبان فى النهاية أن الحل يكمن فى مغادرة الجزيرة، لإنقاذ نفسها من جنون أهلها وأخيها، فإن دومينيك يرى الحل فى الهروب، سواء من بيت والده الشرس، أو من الحياة نفسها بالانتحار، والشخصيات كلها تضحكنا وتثير الشجن والأسى فى نفس الوقت، ربما كانت فكرة كالم العنيفة بأن يبتر أصابعه، إذا طارده بادريك فى كل مكان، أقرب ما تكون إلى العبث والوحشية، ولا تتسق فى الحقيقة مع كونه عازفا للكمان يستخدم أصابعه، ولكن هذا الاختيار العجيب، والذي سيتحقق فعلا، يشير إلى رغبة كالم فى أن يؤلم نفسه، بدلا من أن يؤلم صديقه القديم، ويشير كذلك إلى درجة ما من الجنون يتطلبها الفن، ويحتاجها الإبداع فى رأيه، لقد أراد أن يقطع الطريق إلى آخره.
وبينما يظهر تمثال السيدة العذراء ثابتا وشاهدا لا يتحرك على هذه الملهاة المأساوية، لا تستطيع الكنيسة أيضا أن تصنع شيئا لوقف هذا الجنون، الذي تقف خلفة حالة من الشعور بالخوف والفراغ والملل واللامعنى، وتظل الحيوانات جزءا أساسيا من الحكاية، سواء فى صداقة كالم لكلب، وصداقة بادريك لحمارة، ولكن الحيوانات أكثر سلاما مع النفس من شخصيات حكايتنا الغريبة.
براعة مارتن ماكدوناه مؤلفا وخرجا ليست فقط فى هذا العبث الكارثي الذي يستدرجنا إلى تأمله والتفاعل معه، ولكن أيضا فى اختيار كل المملثين فى أدوارهم، وخصوصا كولن فاريل، الذي عكست تعبيرات وجهه براءة وسذاجة غير عادية.
لقد بدا مثل طفل تخلت عنه أمه، عندما انصرف عنه صديقه، وبدا كما لو أنه قد غرق فى التعاسة الكاملة، ومن أفضل مشاهده، ومشاهد الفيلم عموما، مواجهته لكالم فى الحانة، ودفاعه عن العلاقات الإنسانية، التي يراها أفضل من تأليف قطعة موسيقية خالدة، كما أن موقفه سيتطور من الاستجداء والمواجهة والكراهية إلى العداء والانتقام بعد موت حمارته، وأعتقد أن فاريل أدرك أن شخصيته ليست مجرد حالة خاصة، ولكنها عنوان للمهزلة الإنسانية، بكل ما تحتمله من إحباطات، وبحث
لايتوقف على السعادة، أو بحث عن معنى للحياة.
تنتهي الصداقة، ولا نسمع سوى نغمات متفرقة لمقطوعة كالم، الذي قطع أصابعه، بينما تطفو جثة دومينيك فوق مياه البحيرة، ووراء الجزيرة يستمر القتل العبثي فى الحرب الأهلية الأيرلندية، وتحاول شوبان أن تعيش بعيدا عن الجنون .. فهل تستطيع؟