https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-5059544888338696

رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

«العلوم الإنسانية».. ونهضات الأمم المتحضرة!

849

(1)

هالنى كما هال الملايين من المتابعين والمشاهدين، ما قاله أحد المذيعين على شاشة فضائية مصرية شهيرة، بطريقةٍ صادمة ومستفزة حول قيمة وجدوى الإنسانيات أو العلوم الإنسانية (التاريخ والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والجغرافيا.. إلخ).

وقد جاء هذا التعليق الصادم المستفز فى سياق إعلان نتيجة الثانوية العامة للعام 2024، جاء على لسان مذيع من المفترض أن تكوينه ودائرة خبرته العملية والمهنية تستند بأكملها إلى العلوم الإنسانية! فسواء كان قد تخرج فى كلية الإعلام أم فى كلية الألسن، ففى النهاية هو ابن هذه الدائرة التى لولاها لما تمكن من الظهور على الشاشة، وإعلان ما أعلنه من آراء صادمة ومستفزة (والتكرار دائما مقصود ومتعمد).

ويبدو أنه لا مفر ثانية من الحديث عن جدوى العلوم الإنسانية وضرورتها بل حتميتها للأمم الناهضة والباحثة عن التمدن والحضارة والعمران! هذه المفاهيم التى نادى بها آباء النهضة العربية الحديثة منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى مطالع القرن العشرين!

أى أننا نتحدث عن قيم ومفاهيم بشر بها أعلام النهضة الأدبية والفكرية والإنسانية والعلمية، منذ ما يزيد على القرنين، ولله الأمر من قبل ومن بعد! نتحدث عن أهمية الفلسفة والتاريخ والجغرافيا وتعلم اللغات وضرورتها ولدينا جد عظيم ملهم اسمه رفاعة رافع الطهطاوى ارتبط اسمه بتأسيس الألسن وبحركة الترجمة وازدهارها وبنشاطنا العلمى والفكرى ونهضتنا، التى استندنا إليها طيلة القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين!

إن أسوأ ما فى ذلك الجدل الدائر حول أهمية العلوم الإنسانية وجدواها من عدمها، كما كتب الدكتور محمد البدرى على صفحته الشخصية تعقيبًا على هذا الهزل الماسخ، هو اضطرار بعض العقلاء لشرح «لماذا ينبغى أن نتعلم هذه العلوم؟»، وهى بكل أسف نقطة بعيدة للغاية فى أعماق التاريخ الإنساني.

ورحم الله شيخنا حسن العطار؛ الذى نادى وصاح بعلو الصوت قبل ما يزيد على القرنين من الزمان:

«إن بلادنا لا بد أن تتغيرَ أحوالها، ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها»

(الشيخ حسن العطار؛ شيخ الجامع الأزهر، توفى 1835).

(2)

«العلوم الإنسانية» سميت بذلك لأن «الإنسان» هو موضوعها وهو الذى ينشئها ويحدد معالمها ويطورها، ولا يتقدم فى مساره ولا فى سعيه ولا تتطور حياته ولا أفكاره إلا بواسطتها، ومن خلال أدواتها ومناهجها، وهذه العلوم هى التى تجعل لحياته ولمسعاه ولتاريخه معنى ومغزى وقيمة!

وهى فى الوقت ذاته التى تكسبه تمايزا بإنسانيته، تحدد هوية الإنسان وهوية مجتمعه، وتميز مجتمعًا عن آخر وثقافة عن أخرى وبيئة عن غيرها! وهى كذلك التى تحدد القيم والأخلاق التى يؤمن بها الإنسان، ويسير على هديها وبدونها يصبح الإنسان مجرد كائن حي.. أو غير ذلك.

إن «العلوم الإنسانية»، كما يعرفها الأكاديمى وأستاذ الفلسفة القدير الدكتور أنور مغيث هى التى تدرس الظاهرة الإنسانية فى مقابل العلوم التى تدرس ظواهر الطبيعة.

كان التعليم فى عصره الكلاسيكى يعتبر العلوم الإنسانية والآداب والفنون هى أساس التعليم، لأن الغرض من التعليم هو تزويد الإنسان بالثقافة الرفيعة. فغاية الإنسانيات هى صياغة شخصية الإنسان وترقية الذوق وتحقيق السمو الأخلاقي، لهذا كانت الكلاسيكيات الكبرى فى الفلسفة والمنطق والتاريخ والأدب هى المواد الأساسية التى لا يجب تغييرها مهما تغير الزمان أما باقى المهن مثل الطب والعمارة فكانت تنتقل طبقًا لمنهج من المعلم للصبى مثل النجارة والحدادة، هكذا يقدم الدكتور أنور مغيث بدقة واقتدار السياق التاريخى للمفهوم وتطوره ودلالاته.

وإذا كانت معرفة أسرار الطبيعة أمرًا مهمًا للإنسان لأنه يزيد من تمكنه وحريته، فإن فهم الظاهرة الإنسانية ليس بأقل أهمية وخصوصًا لو وضعنا فى الحسبان أن الطبيعة تعمل وفقا لقوانين ثابتة، وبالتالى فليس لها تاريخ، ومع ذلك لم يصل الإنسان لسبر أغوارها، فما بالك بالظاهرة الإنسانية التى تزداد تطورًا وتعقيدًا كل يوم.

استجابت العلوم الإنسانية للظروف المعرفية الجديدة، واستفادت من طريقة العلوم الطبيعية فى النظر لموضوع الدراسة، فبلورت لنفسها مناهج ملائمة لدراسة «موضوعها» وغيرت من أهدافها.

فقد بدأت فى التعامل مع المجتمع على أنه ظاهرة موضوعية تتسم بالتعقد والتطور والمطلوب هو «بلورة وعى علمي» بها، وانتعشت فى القرن التاسع عشر مدارس تجعل مهمة العلوم الاجتماعية أو الإنسانية هى الكشف عن آليات «الاستغلال» و«الهيمنة»، ورصد مظاهر «الاغتراب» وتسعى إلى تقديم رؤية «نقدية» تهدف إلى التحرر الإنساني، ومدارس أخرى ساد فيها المفهوم «الأداتي»، الذى ينظر إلى العلوم الإنسانية على أنها أداة فى يد متخذ القرار تساعده فى اكتشاف الحل الأمثل للمشكلات الاجتماعية.

(3)

ولعلى أتساءل – فى هذا السياق – مع الأكاديمية الدكتورة هالة فؤاد، أستاذة الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة عن جدوى «العلوم الإنسانية» أو كما تحب أن تطلق عليها «الدراسات الإنسانية» والنظر إليها فى إطار الحديث عن مستقبل مصر، ونهضة مصر وأمل مصر! أتساءل:

إلى أى مدى يمكننا إنجاز بناء حضارى مستقبلى حديث يقف على قدم واحدة، هى قدم «العلوم الطبيعية» فقط بشتى فروعها، وتجاهل القدم الأخرى للحضارة التى هى فى حقيقة الأمر بؤرة مفهوم الحضارة ذاته؟ فما قيمة التقدم العلمى المذهل، إذا لم يستند إلى احترام قيمة الإنسان، التى يحددها بالمقام الأول مشروعه الحضارى الثقافى الذى يشمل: الفنون والآداب، الفلسفة، علم النفس والاجتماع، الدين، التاريخ، القانون… إلخ.

فبقدر تقدم الإنسان فى هذه المجالات تُقاس الحضارة، وإلا أضحى تقدم العلم المتسارع والطاغى وحشا شرسا يلتهم الحضارة الإنسانية ويدمرها (كالقنبلة الذرية) أو لنقل إنه (فرانكشتاين الجديد)، وفق مجاز الدكتور هالة.

فكل ما يمكن أن نبنيه أو نطوره من مشروعاتٍ فى شتى مجالات التنمية المادية إذا لم تكمن وراءه بنية ذهنية ثقافية راقية وحضارية بكل ما للكلمة من معنى، فإنه سرعان ما يدمرنا أو يسلمنا إلى الفراغ الثقافى والوجدانى والعقلي، وهو ما يمكن أن يعد كارثة حقيقية تعانى منها الكثير من المجتمعات الغربية حاليًا، كما هو معروف.

نظرة أخرى مهمة إلى دور «العلوم الإنسانية» و«الدراسات الإنسانية» فى مواجهة التطرف والإرهاب، وكل ما عانينا منه – وما زلنا – طيلة العقود الماضية، نحن ندفع ثمنا باهظا جدًّا لتحييد هذه العلوم واحتقارها وعدم إيلائها ما تستحقه من عناية وازدهار.

ونظرة على تكوينات وتشكيلات الجماعات الدينية المتطرفة، وعلى تكوينات وجماعات تيارات الإسلام السياسى ستجدها بأكملها تنظر ذات النظرة الازدرائية الاحتقارية المقيتة للعلوم الإنسانية (وبالأخص الفلسفة والاجتماع وعلم النفس والتاريخ ومناهجه، والأدب ونقده.. إلخ) وتنظر إليها كلها على أنها رديف للكفر والزندقة والإلحاد والشكوكية، وتحذر منها وتنفر أتباعها من دراستها.. إلخ ما تتداوله تلك التيارات وأتباعها من خطابٍ تشويهى لكل إنجازات العلوم الإنسانية ومكتسباتها طيلة القرون الماضية!

لا تصدر تلك الجماعات إلى قيادات صفوفها وجموعها وقطعانها سوى الأطباء والمهندسين والزراعيين والمتخرجين فى كليات العلوم، وبالجملة كل الذين درسوا وتخصصوا فى العلوم الطبيعية، وهذا لا يشين العلوم الطبيعية ولا يدينها بطبيعة الحال، بل يثبت النظرة النفعية الإجرائية الانتهازية لهذه التيارات التى تدرس هذه العلوم من منظور نفعى بحت!

أو بحسب نظرة مشايخهم وكبارهم التى تجلت فى خطبهم وأحاديثهم المذاعة والمسجلة بالعشرات «دع الغرب يدرس ويبتكر ويخترع ونأخذ نحن ما يخترعونه ويبتكرونه على الجاهز! فكأن الله سبحانه وتعالى قد سخرهم لنا وأذلهم لصالحنا، فيتعلمون ويتعبون ونأخذ نحن ثمرة تعبهم هذا لنا!»

(4)

وهكذا وببساطة ودون فذلكة كرَّست هذه النظرة – طيلة ما يقرب من نصف القرن – لاستيراد المنتج التكنولوجى والمبتكرات العلمية فقط، ونصبح نحن – دون أن ندرى – مجرد مستهلكين نهمين لا نشبع لما ينتجه غيرنا فنصبح مستعبدين له ومصيرنا بيده! ولم يفطن هؤلاء أبدًا إلى خطورة وبشاعة هذا المصير حتى وقتنا هذا!

كانت هذه الأفكار السوداء وهذه الممارسات البشعة ثمرة مرة لغياب العلوم الإنسانية وتكريس النظر للعلوم الطبيعية نظرة نفعية إجرائية بفصلها عن روافعها الإنسانية (المعرفية والفلسفية) فلا علم حقيقى ولا تقدم ملموس ولا ابتكار أصيل ولا مساهمة فى عطاء البشرية العلمى من دون أساس معرفى وفلسفي، ومن دون بيئة تتقبل حرية العلم وتدافع عن استقلاله وتدعو إلى تطوره وازدهاره!

لولا فولتير وروسو وديدرو وسابقيهم وسابقى سابقيهم من أعلام حركة التنوير والنزعة الإنسانية ما كان لنيوتن ولا جاليليو ولا كوبرنيقوس ولا غيرهم من أعلام البشرية وأفذاذها أن يقطعوا الأشواط التى قطعوها ولا وصلوا إلى ما وصلوا إليه من ثمار الثورات العلمية والصناعية والعقلية.

فكرة أخرى كانت من الحصاد المر لإهمال وازدراء العلوم الإنسانية وهى فكرة انعزال التخصصات العلمية داخل دائرة العلوم الإنسانية إجمالًا، وقد كان هذا فى ظنى من أخطر وأفدح ما حدث فى التعليم الجامعى طوال العقود الخمسة الماضية؛ إذا عممنا الفكرة أيضًا على الكليات العملية أو العلمية والرياضية البحتة (الطب والهندسة والعلوم والزراعة.. إلخ)..

فجزء كبير من أزماتنا التى نعانيها، فى التعليم، تتلخص فى تكريس عزلة التخصصات عن بعضها بعضًا؛ فيدعى دارس الطب أنه لا يلزمه شيئا من تذوق الأدب، ولا أن تكون لغته «العربية» فى حدها الأدنى من الإجادة والسلامة، ويثور طالب العلوم فى وجه من يطالبه بأن يعرف شيئًا عن نظرية المعرفة والتفكير النقدي! ويرد بعنف «نحن أهل العلم وما لدينا يكفينا»!

الانغلاق الذى فرضته أغلب الأقسام العلمية على ذاتها (تراجعًا وانسحابًا واستجابة للتردى المخيف فى الحد الأدنى من المعرفة التى يجب أن تتوافر فيمن ينتسب إلى هذه الأقسام والكليات)، بموازاة الجمود الذى ضرب أقسام العلوم الإنسانية (وهى بطبيعتها تتأبى على الانغلاق والاكتفاء بذاتها)، فى العديد من جامعاتنا وكلياتنا (إلا من رحم ربى!)، أدّى ذلك كله إلى كارثة بكل المقاييس، سواء على مستوى تكوين الخريج العادى من هذه الكليات (ولنا فى نظرة وطريقة وأداء المذيع المعروف مثال على ما نقول)

وتتبدى كذلك فى المستوى المفزع للرسائل المقدمة للحصول على الماجستير والدكتوراه، وفى مستوى وثقافة وتكوين هؤلاء الذين صاروا أساتذة، وأساتذة مساعدين حاصلين على درجات علمية، دون أن يجاوز تكوينهم العلمى تكوين طالب متوسط المستوى فى المرحلة الثانوية (إلا من رحم ربى حتى لا يتهمنا أحد بالتجنى وعدم الاحتراز)!