https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-5059544888338696

رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

معرض الكتاب.. ناجح بامتياز.. و«الجمهور» كلمة السر

765

– دورة استثنائية خالفت التوقعات تماما

إيهاب الملاح

لم يكن أحد – مهما كانت درجة تفاؤله أو إسرافه في التفاؤل إلى حد الجنون- يتوقع
أو يتصور أن تكون الأيام الأولى من معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الرابعة والخمسين (25 يناير – ٦ فبراير 2023) بهذه الكثافة وهذا الحضور وهذا الزخم. منذ فتح المعرض أبوابه للجمهور، وحتى صدور هذا العدد من (المجلة)، شهد المعرض تفاعلا غير مسبوق على كل المستويات؛ حضورا ومشاركة، وحركة بيع وشراء، وتبادل العقود والتوكيلات والحقوق بين الناشرين وبعضهم بعضا من كل أنحاء العالم، عدد كبير جدا من الضيوف العرب والأجانب، كتابا ومبدعين ونقادا ومتخصصين في كل فروع المعرفة الإنسانية…

1

شخصية المعرض المحتفى بها صلاح جاهين كانت محل قبول ورضا واستجابة مذهلة، كامل كيلاني كاتب الأطفال الراحل كان شخصية المعرض فى أدب الأطفال، الأردن ضيف الشرف، واستدعاء لكل رموز الفكر والتاريخ والثقافة المصرية والعربية بكثافة غير عادية، كبار الشخصيات والمثقفين فى مصر والعالم العربي تفرغوا تماما له خلال أيامه وتقريبا كانوا مقيمين أياما بكاملها بين قاعاته و«بلازاته» (المساحات الفاصلة بين قاعات العرض وتحتضن فاعليات المعرض الثقافية والفكرية) وصالات العرض.

بالجملة؛ يمكن القول باطمئنان؛ لقد خالف معرض الكتاب هذا العام كل التوقعات التي كانت تنحو إلى التشاؤم والخوف المفزع من الركود والتضخم وارتفاع سعر الدولار، وتوقف الحركة النشطة التي اعتدناها فى معرض الكتاب، خصيصًا، وكالعادة أثبت المصريون -وخاصة من الشباب- أنهم قادرون، رغم الظروف الصعبة والتحديات المعيقة، أن يواجهوا ويتغلبوا على أي شيء مهما كان فى سبيل إنجاح حدثهم الثقافى الأول بلا منازع.

قبل الافتتاح بحوالي أسبوعين، وعلى المستوى الشخصي، لم أكن متفائلًا أبدا بدورة هذا العام من معرض القاهرة الدولي للكتاب الـ 54 (التي تُعقد بمركز مصر للمؤتمرات بالتجمع الخامس، خلال الفترة من 25 يناير وحتى 6 فبراير). كان يخامرني إحساس قوي بالخوف الشديد (بل الرعب) من تأثير الأزمة الاقتصادية على الناشرين والكتاب والقراء، وكل أطراف هذه الصناعة الوطنية العظيمة، التي لا تدخل فى حسابات أحد، ولا يهتم بها أحد سوى أصحابها فقط!

كنت أتخوف حد الذعر من الآثار الكارثية للاضطراب العالمي فى الأسواق العالمية، جراء الحرب الروسية الأوكرانية، واضطراب حركة سلاسل الإمداد العالمية، وارتفاع أسعار الغذاء والنفط، وجنون سعر الدولار فى مقابل العملات المحلية، وسعي كل حكومات الدنيا إلى توفير الغذاء أولا، ومصادر الطاقة ثانيا، وتأمين السلع الاستراتيجية والضرورية ثالثا، وبالتأكيد فلن يكون ضمن أولوياتهم التفكير فى شيء آخر! وكنت أدعو فى سري: «ربنا يستر على الكتاب وأهله وصناعه وناشريه وقرائه.. إلخ».

2

وكان الحديث يتردد -فيما يتردد كل عام- قبل انطلاق هذه الدورة تقريبا بشره، عن تراجع الإمكانات، وضعف التنظيم، وتفاقم مشكلات اللوجيستيات التي كانت تحفظ لمعرض الكتاب مكانته وتاريخه؛ فكلنا يعلم أن معرض القاهرة الدولي للكتاب بعد 2011 لم يعد أبدًا هو ذاته الذي كان قبلها، من حيث احتلال الصدارة بين معارض الكتاب العربية فى التنظيم والحضور، وعدد دور النشر المشاركة والفعاليات.. إلخ.

وقل ما شئت عن المشكلات المزمنة الأخرى؛ التي برزت بشكلٍ مخيف خلال السنوات الماضية، من تواضع الإمكانيات، وعن الارتباك والفوضى والعشوائية، كل ذلك معلوم؛ وفى ظل هذه الأجواء الغائمة المستريبة فى نجاح هذه الدورة، خاصة بعد أن ألقت الأزمة الاقتصادية بظلالها الكئيبة الكابية، فجأة وبدون اتفاق، ولا سابق تخطيط، ومن قلب الإحباط الدامس، انبثق ضياء أمل وفرح ونور تجسد بصورة مذهلة فى تلك الدفعة الهائلة من النشاط والأمل والتفاؤل؛ دفعة غير عادية سرَت فى أوساط المهتمين والمعنيين بالكتاب ونشره وصناعته أولا، وفى محيط المتعاطين مع القراءة والمعرفة ثانياً، نفضت هذه الكتلة العظيمة من جمهور القراء والناشرين والمثقفين عن نفسها أي ظلال يأس أو إحباط أو «انتظار البلا»، وقررت مواجهة كل ذلك بالأمل والعمل والتفكير خارج الصندوق، ولا شيء آخر غير ذلك!

وتوالت الإعلانات والمبادرات عبر السوشيال ميديا والمواقع الثقافية ودور النشر المصرية، كي تؤكد أنها ستواجه هذه الظروف الصعبة، وستتحدى الغلاء وستقدم جديدها من المعرفة والكتب رغم أي شيء، وبدأ ظهور الأغلفة الجديدة المبهجة المفرحة، والعناوين التي ينتظرها كل عشاق الكتب والقراءة والأدب والمعرفة عمومًا، من العام إلى العام. وهنا أحب أن أرصد ظاهرة بزوغ جيل جديد من شباب المصممين،

أزعم الآن أن جيلا بل أجيالا جديدة تتخلق وتتشكل وتعبِّر عن نفسها جماليا وبصريا، فلم يعد سوق تصميم الأغلفة مقصورا على الأسماء المعروفة والمكرسة والتي سيطرت على هذا النشاط طيلة السنوات العشر الماضية. عشرات الأعمال والأغلفة الجديدة بتصميمات مبتكرة وأفكار رائعة تؤكد حضور هذه الأجيال، وتفتح آفاق هذا الفن إلى حدود لا تحد، وقد أسالت هذه الأغلفة بالفعل لعاب محبي القراءة والشغوفين بها، وأشعلت فضولهم إشعالًا مضاعفًا!

وبالتوازي مع هذه الدفقة الحيوية من الإعلانات عن الأغلفة الجديدة، وعن العناوين الجديدة، والإصدارات الجديدة، انطلقت مبادرات أخرى تزامنت مع بعضها بعضا، وتداخلت فى مزيج متجانس رائع أشبه بلوحة الموزاييك المبهجة التي تسر الناظرين، قادتها دور النشر المصرية، منها العريق والراسخ فى المهنة، ومنها الحديث الشاب المتوثب المتحدي، ومنها دور عديدة متنوعة من الصفوف الأولى وما بعدها، كلها تعلن بحماس عن حزمة خصومات هائلة، وتيسيرات مذهلة وغير مسبوقة على إصداراتها الجديدة والقديمة على السواء..

خصومات تصل إلى أكثر من ستين فى المائة بل وأعلنت بعض دور النشر عن أسعار مخفضة «حقيقية» معلنة على صفحاتها الترويجية تبدأ من سعر
10 جنيهات ولا تزيد على الخمسين جنيها!

3

لم أكن أتوقع أبدًا أن تحدث هذه الانتفاضة العفوية المقاومة للظروف والتحديات، وكالعادة يثبت قطاع أصيل من أهل الصناعة المصرية، ومن الجمهور المصري، أنه قادر على مواجهة التحديات والأزمات مهما كانت الظروف، ومهما كانت المعوقات والصعوبات.

وفى اليوم الأول لافتتاح المعرض للجمهور (الخميس 26 يناير) ملأت صور الحشود والطوابير من الشباب ومن كل الأعمار صفحات السوشيال ميديا ووسائل الإعلام المختلفة. صور رغم اعتياديتها طيلة العقود الماضية، لكنها فيما مضى تعني شيئا، والآن -وفى هذه الظروف- تعني شيئًا آخر تمامًا.

رصدت عينات من تعليقات الكتاب والمثقفين والقراء الأشقاء من الدول العربية على هذه الصور وهذه المشاهد؛ القاسم المشترك فى هذه التعليقات يمكن تلخيصه فى هذه العبارة «لا شيء يمكن أن يواجهكم، ولا يمكنكم تجاوزه والتغلب عليه».

أسعدني وأشعرني بالفخر أن أقرأ الأسطر الجميلة والنبيلة من الكاتبة الإماراتية الكبيرة والمثقفة العروبية الرائعة عائشة سلطان، المثقفة العربية المحبة لمصر والحريصة على نجاح كل فعل ثقافى عربي، ختمت كلامها الجميل بذلك السطر الجميل «مصر حلوة وعظيمة، وستبقى كذلك بكم ولأجل كل العرب».

لا بد وأن نعترف بأن كلمة السر التاريخية دائما وأبدا فى نجاح الفعاليات الثقافية وأنشطة معرض الكتاب ودوراته هي «الجمهور»؛ الناس، البشر، هم الحياة ذاتها. الجمهور فقط وخاصة من الشباب هو ما يضمن لهذا المعرض الكبير والعريق أن يكون دائما فى الصدارة، وأن يكون قبلة لكل المثقفين، شاء من شاء وأبى من أبى..

هذا الجمهور وحده هو الذي أعطى ويعطي المعرض حيويته ونضارته وحضوره، رغم كل شيء؛ فما زالت الأسر المصرية البسيطة حريصة على زيارة معرض الكتاب ولو ليوم واحد؛ ما زالت أجيال وأجيال تحافظ على حنينها المتوهج لمعرض الكتاب؛ المواطن المصري البسيط الذي لا يكترث له أحد هو الذي يمنح المعرض كل هذا البهاء والألق والحضور.

4

أما عن الكتب والإصدارات الجديدة، والتنوع المذهل فى العناوين من أرقاها إلى أدناها ومن الشرق إلى الغرب، ومن بحري إلى قبلي، فشيء يفوق الحصر والخيال معًا، فضلا على بانوراما فنية مذهلة لم يسبق لها مثيل فى الإخراج الفني والأغلفة الجميلة المدهشة بما يجعلني أميل إلى الادعاء بأن مصممي أغلفة الكتب صاروا «نجوم شباك» بكل معنى الكلمة.. ولهذا حديث يطول، وربما نفصله فى كتابة أخرى مستقلة.

فى حدود القدرة البشرية والوقت المتاح والزيارات المعدة سلفا أو حتى العشوائية.. كانت الكتب الجديدة متنوعة وغزيرة ولافتة، وكلها مغرية بالاقتناء..

ولا مفر من الإشارة وضرب الأمثلة؛ لأن الحصر والعد سيُعيي من يحاولهما! وكذلك محاولة التنويه عن طريق إصدارات دار بعينها؛ لأنه وللأمانة معظم دور النشر التي أعرفها أو اتصلت بإنتاجها تبارت فى إخراج كتبها الجديدة فى أحسن صورة وأفضل شكل، طبعا بموازاة المحتوى المتنوع بين الإبداع الأدبي أو الفني والدراسات الثقافية والنقدية والفكرية والتاريخية
أو حتى الموضوعات ذات الطبيعة الخاصة.. إلخ.

وهنا أيضا لا بد من الاعتراف بأن عددا من دور النشر التي مر على ظهورها حوالي عشر سنوات أو أقل قد أثبتت حضورها ورسوخها وصار لها جمهورها الذي يأتي من كل مكان ليقتني كتبها ويشتري إصداراتها كل فى مجاله. لا بد من الاعتراف (على الأقل فيما يخصني) أننا لم نولِ هذه الدور ولا إصداراتها
ولا إنتاجها ما تستحقه من عناية واهتمام لا لشيء سوى انعدام المعرفة! فقط!

بعض هذه الدور حدد هدفه من البداية بالتركيز على شرائح عمرية بعينها وركز على ما يحب هؤلاء أن يقرأوا وقدموا لهم ما يحبونه بغض النظر عما كان هذا يرضينا نحن أم لا! أو إن كان يتفق مع ما نراه أو نظنه من قيمة أم لا!

فى الأخير، أنت أمام جمهور عريض يستهلك منتجا «الكتاب» يأتي من آخر الدنيا كي يدفع خمسين أو ستين جنيها ليشتريه ويقرأه سواء كان «رواية أم شعرا أو تنمية بشرية أم علاقات أسرية ونصائح عاطفية.. روايات رعب، أو كتبا أخلاقية».. إلخ فى النهاية موجودة ولها جمهور ولن يجدي أبدا التعامل معها بازدراء أو استهانة أو تحقير.. بل الأجدى فيما أظن التعامل معها بوعي وفهم واستيعاب.. وإدراك للأسباب الحقيقية التي تجعل هذا الجمهور الغفير يقبل على هذه الكتب مهما كان رأينا فيها أكرر مهما كان رأينا فيها.

التحية والشكر أولا لكل من ساهم أو يساهم فى صناعة الكتاب، وفى مهنة النشر، فى هذه الظروف الصعبة؛ ناشرين وكتابا وفنانين وعمالا.. إلخ، محتوى وإخراجا ونشرا وتدقيقا.. إلخ، وأن أوجه التحية والشكر لكل قارئ وقارئة منح النجاح والفرح لكل هؤلاء بزيارته وشرائه لكتاب أو أكثر..

5

لقد تعودتُ كلَّ عام، لما يزيد على العشرين سنة، مع انطلاق فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، تدوينَ ما سميتُه «يوميات المعرض»، أسجل بكل دقة تفاصيل ومشاهدات كل يوم فى المعرض، مقابلات الأصدقاء، وما دار فيها، الفعاليات التي حضرتها، وأخيرًا الكتب التي اقتنيتها وإشارات سريعة عنها أو عن السبب الذي جعلني أقتنيها. كل ذلك داومتُ على كتابته لسنوات طويلة، وما زلت أحتفظ به حتى اللحظة، أما هذا العام فقد لجأت إلى أسلوب التسجيل الصوتي لمواكبة كل ما يمر أمامي حتى لا تضيع تفصيلة هنا أو هناك.

ما كتبته هذه المرة يكاد يقترب من كتيب صغير عن حصاد جولات هذه الدورة والكتب التي اقتنيتها. ببساطة، شعوري بمعرض الكتاب هذا العام مختلف فعلًا، أشعر بألفة عميقة جدا مع كل تفصيلةٍ فيه، ومهما كان لدينا من ملاحظات على أمور تنظيمية أو إجرائية هنا أو هناك (وهي كثيرة ومزعجة، لكنها فى النهاية لم تفسد الفرح ولم تصل إلى جرح العين؛ أو هكذا تصورنا!) فإننا لا نملك إلا الاعتراف بأن معرض الكتاب هذا العام قد نجح نجاحا يستوجب الفرح والفخر، وأن تكون بلدنا فى كل ما تنظمه من مناسبات وأحداث كبرى على هذا المستوى وأن تحقق هذا النجاح الرائع الكبير..

وما زلت محكومًا بالأمل، وأن ما شهدناه هذا العام فى المعرض أكبر دليل على أن الأمل باق وموجود وكبير.