صالون الرأينجوم وفنون
«سنووايت».. روح جميلة في سجن البدن
By amrفبراير 11, 2025, 19:26 م
368
يدهشني شباب السينما المصرية من الجنسين بموهبتهم، وبتلك المعالجات المبكرة لأفكار صعبة، وبتقديم شخصيات درامية بحساسية وفطنة، و في كل مرة ينجحون في تقديم أفلام مميزة وممتعة، وحافلة بالعناصر الفنية الشبابية الممتازة، ولا أشك في أنهم سيأخذون مكانة كبيرة في مستقبل الفيلم المصري، كما لا أشك أن هذا الموسم السينمائي (2025) بدأ بداية قوية ومختلفة، بفضل تلك الأفلام.
محمود عبد الشكور
من هذه النوعية بجدارة فيلم “سنووايت” تأليف وإخراج المدهشة تغريد عبد المقصود أبو الحسن، وليس تميّز الفيلم لأنه يطرح موضوع قصار القامة فحسب، بل لأن التميّز يتعلّق أساسا بالمعالجة الفنية الذكية شكلا وموضوعا وتكاملا للعناصر الفنية، وبطريقة خلّاقة تتجاوز حتى موضوع قصر القامة، إلى فكرة العلاقة مع الذات والآخر، وفكرة ضرورة أن تعرف البشر من الداخل، وليس من الخارج فقط، وحكاية تلك الروح الجميلة، والعقل الجميل أيضا، الذى يراد حبسه فى بدن صغير، مع رسم بورتريه فريد لبطلة الفيلم قصيرة القامة، التى لعبت دورها بحضور وحيوية فائقين الصيدلانية مريم شريف، كإنسانة عادية، نراها من الداخل، مثلما نراها من الخارج، فنحبها فى الحالتين، بكل سلاسة ونعومة، ودون افتعال أو اصطناع.
ليس هذا هو الفيلم الروائى الطويل الذى يظهر فيه قصار القامة، فقد شاركوا يحيى الفخرانى بطولة فيلم “الأقزام قادمون”، أول أفلام الثنائى ماهر عواد وشريف عرفة، كما ظهر قصار القامة فى أدوار كوميدية فى أفلام كثيرة قديمة وحديثة، واستخدموا كمصدر للتريقة والسخرية، أشهرها مثلا فى فيلم ” الرجل الأبيض المتوسط”.
ولكن “سنووايت” مختلف تماما فى تركيزه معالجته على قصر القامة، سواء عند بطلته، أو قصر القامة عموما، من زاوية أن تكون هذه الهيئة القصيرة محور الحكاية، وليس عنصرا مساعدا أو رمزيا كما فى فيلم “الأقزام قادمون”، بل إن فيلمنا الجديد يرفض أصلا استخدام كلمة “الأقزام” ذات الدلالة الساخرة، ويصححها إلى تعبير “قصار القامة”، ويشير فى خلفية حكاية بطلته إيمان، إلى نشاط وتجمعات قصار القامة، وشكواهم من التنمر، ومن منعهم مثلا قيادة السيارات.
لكن جمال المعالجة المرهفة، وصعوبتها أيضا، فى أن يكون قصر قامة البطلة التى تعمل فى وكالة مقرها مجمع التحرير، حاضرا ومحوريا، بنفس درجة حضور مشاعر البطلة الإنسانية، وعقلها الناضج، وشخصيتها القوية، وهى أشياء لا تختلف فيها عن أى إنسانة طبيعية بل إن اللعبة الدرامية كلها قائمة على هذه الثنائية الصعبة جدا : قامة غير طبيعية، وإنسانة تريد أن تعامل بصورة طبيعية، ولذلك سنتقبلها تماما فى نهاية الفيلم، بنفس شكلها وهيئتها، وستفرض إيمان الجميلة علينا شخصيتها ومحبتها وحضورها الإنسانى الباذخ.
ليس سهلا أبدا أن تحقق ذلك، ولكنه حدث بالرسم البارع للشخصية المحورية إيمان نجيب، وعلاقاتها، وعالمها المحدود، وبالذات علاقتها مع أختها الصغرى صفية، حيث تقوم إيمان بدور الأم والأخت معا، وتتعهد أمام عريس الأخت (محمد جمعة)، وأسرته، بأن تشترى لأختها ثلاجة 16 قدما، بينما يتأفف أهل الزوج من أخت صفية قصيرة القامة.
ستكون هذه الثلاجة أساس انطلاق الدراما، التى سيتم تطويرها فى ثلاثة اتجاهات ذكية: جهود إيمان الشاقة والمتعثرة، فى الحصول على سلفة من أجل شراء الثلاجة، ومحاولة إيمان أن تحصل على عريس من خلال أحد مواقع التزويج، وتبدأ علاقة حب مع شاب فى الخارج (محمد ممدوح)، دون أن يعرف أنها من قصار القامة، والخط الثالث ظهور شاب من قصار القامة، يعمل فى جمعية خاصة برعايتهم، وهو يحاول أيضا أن يفوز بقلب إيمان.
يتحرك السيناريو برهافة تثير الإعجاب بين الخطوط الثلاثة، تضفرها تغريد معا، وتنسج تفاصيل إنسانية، بصورة ثرية، وتقدم وسط البلد وميدان التحرير وميدان الجلاء بصورة استثنائية، وتصنع كذلك مزيجا بين المشاهد المرحة، والمشاهد الجادة، والمواقف المؤثرة، ودوما تملأ الممثلة مريم شريف الصورة طوال الوقت، مرحا وجدلا وبكاء ورقصا ودلالا.
الأهم من ذلك توظيف إمكانيات السينما صوتا وصورة ومونتاجا وموسيقى، هناك مشاهد بأكملها أقرب إلى اللوحات المتكاملة، مثل مشهد حلم إيمان بالممثل كريم فهمى الذى تحبه ومشهد دخلوها فى فستان طويل وردي، ومشهد سباحتها فى البحر، ومشهدين رائعين رقصت فيهما إيمان على أغنية وردة “فى يوم وليلة”.
تتكرر علامتان بصريتان مهمتان فى الفيلم: ممرات ضيقة تسير فيها إيمان، وسلالم كثيرة تصعد إليها أو تهبط منها، ورغم جسد وقامة الممثلة الضئيل، إلا أنها تتوسط الصورة، وتتحرك فى محيط فارغ وساكن، مع كلوزات بديعة لوجهها ويديها الصغيرتين الجميلتين، فكأن الكاميرا تتغزل فيها، وتجعلنا نراها جسديا بشكل مختلف.
هنا مخرجة فاهمة وذكية، عرفت كيف تصنع من الجسد الصغير حضورا بصريا هائلا، وعرفت كيف تدير بطلتها بشكل عام، وإن كان الأداء فى بعض المشاهد أقل من غيرها، كما أن عناصر الفيلم الفنية كلها متميزة: بالذات موسيقى مصطفى الحلواني، التى لازمتنى منها جملة موسيقة حلوة صنعت فالسا بديعا، ومونتاج رانيا المنتصر بالله فى تتابعات كثيرة، وفى إيقاع الفيلم عموما، وصورة أحمد زيتون التى تلونت بلون مشاعر الشخصية، بين الفرح والحزن، وديكورات شيرين فرغل بالذات فى حجرة إيمان، بذوقها الرفيع، وألوانها المبهجة، رغم ظروف البطلة الصعبة، وملابس مى جلال، التى تعكس مشاعر إيمان صعودا وهبوطا.
ولا يجب أن أنسى تقديم تحية خاصة لمنتج الفيلم محمد عجمي، الموضوع صعب وغير مألوف، والكاتبة والمخرجة والبطلة يقدمن فيلما طويلا لأول مرة، وتحمسه للسيناريو ولهن، يدل على عين فنية واعية جدا.
ربما تمنيت أن يكتمل خط إيمان مع صديقها قصير القامة، وألا تلتبس أحيانا رغبة إيمان بأن يحبها أحد لذاتها، وليس كشخصها، بخاطر غير صحيح بأنها تكره قامتها القصيرة، أو بخاطر آخر غير صحيح أيضا بأن يمكن أن تكون مخادعة، فالحقيقة أنها شخصية قوية وذكية، والمشكلة ليست عندها إطلاقا، ولكن عند الجميع بمن فيهم أختها وخطيبها ورئيسها فى العمل .. إلخ.
بدأ الفيلم أيضا متعدد النهايات، وكلها جميل فعلا، ولكن كان يمكن التركيز فقط على نهاية الفرح الأكثر مناسبة بمفردها، ووضع المشاهد الجميلة الأخرى، مثل سباحة إيمان فى البحر بمناطق أخرى من الفيلم.
ولكننا فى النهاية أمام أحد أفضل وأجمل وأذكى أفلام العام شكلا وموضوعا، وأمام مولد مخرجة سيكون لها شأن كبير اسمها تغريد عبد المقصود أبو الحسن، وقد أخبرتنى شيرين فرغل مهندسة مناظر الفيلم، أنها عملت مع تغريد أيضا على نفس الحكاية كفيلم قصير، قبل أن يعملا عليها كفيلم طويل ممتع.
سنووايت فى الحكاية المعروفة كانت طويلة القامة، وساعدها قصار القامة، وحكايتنا عن قصيرة القامة لا تقل جمالا عن سنووايت يساعدها طوال القامة، ومعهم شاب جميل من قصار القامة.
شكرا شباب السينما المصرية الموهوبون على هذه المتعة الصافية.