رئيس التحرير
حرب طحن العظام.. معارك بلا نصر
By amrيونيو 22, 2025, 13:59 م
270
لا تزال المعارك والمواجهات العسكرية التي بدأت الجمعة 13 يونيو الجاري بين إسرائيل وإيران عقب اعتداء إسرائيل على السيادة الإيرانية، وشن هجوم جوي تحت زريعة قيام الأخيرة بتمثيل تهديد وجودي على تل أبيب بامتلاكها سلاحًا نوويًا، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن والمواجهات أشبه بلعبة كرة الطاولة، تتناقلها مضارب اللاعبين والمنطقة؛ والعالم يتابع عن كثب فى انتظار ما تسفر عنه تلك المواجهات. فيتوقع البعض أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة وفق سيناريو شديد التشاؤم، مصحوب بتأييد رأي آخر أن تكون النهاية بمواجهة نووية تؤدي إلى تدمير الإقليم، بل يجد العالم نفسه أمام حربٍ واسعة النطاق.
في الوقت ذاته يرى جانب آخر من المحللين أن تلك المعارك لن تنتهي قريبًا بل ستواصل كلا الدولتين المواجهات فى عملية من أكبر عمليات طحن العظام.
المشهد فى منطقة الشرق الأوسط يزداد تعقيدًا وسط تصريحات شجب وإدانة سياسية للأعمال العدائية الإسرائيلية ضد إيران، وبين تصريحات الدعم الأمريكية والغربية للجانب الإسرائيلي.
ولأن العمليات العسكرية لا تحسم معاركها إلا بالنتائج على الأرض، فالمواجهات حتى الآن لم تحدد مَن المنتصر بعد، فرغم مرور 8 أيام على المعارك وحتى كتابة هذه السطور لا يزال الجانبان يعملان وفق استراتيجية الهجوم المتبادل والرد على الآخر.
ففي الصباح تعلن إسرائيل عن عمليات هجومية ضد أهداف محددة داخل إيران مستخدمة القوات الجوية والطائرات المسيرة بدون طيار، وفى المساء يأتي الرد من جانب إيران بقصف مجموعة من الأهداف داخل إسرائيل بعدد من الصواريخ الإيرانية الباليستية والفرط صوتية قصيرة ومتوسطة المدى.
العمليات بين الجانبين لا تختلف كثيرًا خاصة بعد أن أصبحت إصابة الكثير من المدنيين هي السمة الواضحة لآثار القصف والعمليات العسكرية.
(1)
حتى الآن ومع تضارب البيانات فى ظل التعتيم الإسرائيلي بلغ عدد الضحايا من القتلى والمصابين فى إيران 1300 ما بين قتيل ومصاب، وفى الجانب الإسرائيلي بلغت حصيلة القتلى والمصابين وفق المعلومات المتوفرة 838 ما بين قتيل وجريح وفق إحصائيات منظمات مدنية.
قامت إسرائيل بفرض حظر وتعتيم إعلامي بقرار من جانب الرقابة العسكرية على العديد من الأحداث، فحظرت التصوير بالمحمول فى مواقع الأحداث أو نشر أي صور لعمليات عسكرية أو آثار قصف على الصفحات الشخصية وأحكمت الرقابة العسكرية الإسرائيلية إجراءاتها على الصحف الصادرة فى تل أبيب.
استطاعت إسرائيل استهداف قيادات عسكرية وعدد من علماء البرنامج النووي الإيراني، خلال العمليات، الأمر الذي حاولت من خلاله إرسال رسالة مفادها دقة المعلومات المتوفرة لديها عن الجانب الإيراني، وهي من الرسائل التي تستهدف النيل من الروح المعنوية لدى الخصم.
فى الوقت ذاته كانت العمليات الإيرانية فى بداية المواجهات غير دقيقة فى ظل تصدي الدفاع الجوي الإسرائيلي للعديد منها، لكن الأيام الأخيرة من المواجهة ومع دخول الصواريخ الباليستية متوسطة المدى مسرح العمليات، استطاعت إيران استهداف قطاعات مؤثرة داخل إسرائيل، فقصفت مصفاة النفط فى ميناء حيفا، ومحطة الطاقة الكهربائية بالميناء كان القصف مؤثرًا بشكل كبير مما جعل الرقابة العسكرية الإسرائيلية تفرض حظر نشر تفاصيله، كما تم استهداف إحدى القواعد العسكرية فى تل أبيب.
وتم قصف العشرات من المنازل فى مدينة ريشون ليتسيون جنوب تل أبيب، (مستوطنة أنشأتها الحركة الصهيونية عام 1882 على أراضي قرية عيون قارة الفلسطينية).
كما تم قصف معهد ويزمان للعلوم فى رحوفوت أحد أهم معاهد البحوث العلمية فى إسرائيل، ويعمل فى خدمة شركات إنتاج الأسلحة، وقصف عدد من المباني فى تل أبيب والمراكز التجارية، ومستشفى سوروكا فى مدينة بئر السبع جنوب إسرائيل.
كما تم قصف مقر الاتصالات والتحكم والاستخبارات التابع لجيش الدفاع الإسرائيلي مقر C4I التابع لجيش الدفاع الإسرائيلي فى بئر السبع.
وتم قصف مبنى المخابرات المركزية، عمليات آراش إسرائيل فى حديقة جاف يام التكنولوجية فى تل أبيب.
كما تم استهداف منزل الوزير الإسرائيلي المتطرف السابق داني نافيه، الخميس الماضي وهو ما يدلل على قدرة إيران لملمة أوراقها سريعًا وتوافر المعلومات لديها عن العدو لتكون أكثر دقة فى توجيه ضرباتها.
كما تم استهداف بورصة تل أبيب، مما أحدث دمارًا كبيرًا فى المنطقة الاقتصادية بإسرائيل.
وقد شهدت نهاية الأسبوع تفوق الجانب الإيراني على كسر القبة الحديدية واختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية مما جعل سماء تل أبيب مستباحة للصواريخ الإيرانية، وهو ما تسبب فى حالة من الهلع لدى السكان ومحاولات نزوح لأكثر من 5000 إسرائيلي هربًا من الصواريخ الإيرانية.
كما عدلت طهران نهاية الأسبوع من سياستها فى القصف الصاروخي، فقد قامت بإطلاق عدد من الصواريخ الباليستية فى الصباح، بعد أن كانت تقوم بالرد فى جنح الليل.
فى الوقت ذاته قامت إسرائيل بقصف عدد من المناطق المدنية فى طهران بالإضافة إلى استهداف شبكات البنية التحتية للمدينة، كما قامت بقصف عدد من المنشآت النووية فى نطنز وأصفهان وفوردو.
فقد قامت إسرائيل بتدمير جزئي فى مرفق ترتيب أجهزة الطرد المركزي فى نطنز شمل دمارًا فى البنى السطحية، وحتى الآن بدون وصول إلى الأنفاق تحت الأرض.
تدمير مرفقين لصناعة الطرد المركزي قرب طهران، حسب ما أكدت وكالة الطاقة الذرية، وضرب مفاعل آراك للماء الثقيل الخميس الماضي، دون تسرّب إشعاعي كبير لأن المنطقة كانت خالية مسبقًا.
دُمرت معظم بطاريات الدفاع الجوي بعيدة المدى (مثل الـS‑300)، بينما نجت بعض المواقع تحت الأرض، لكن أنظمة الرادار وشبكات التحكم تضررت.
كما نجحت إسرائيل فى تدمير عشرات من منصات الصواريخ (SSM) فى مواقع متعددة مثل كرمنشاه، تبريز، أصفهان، وطهران.
كما قامت بقصف مبنى الإذاعة والتليفزيون الإيراني لإسكات صوت إيران فى محاولة من جانب إسرائيل لوقف الحشد الشعبي الإيراني حول النظام، إلا أن البث التليفزيوني الإيراني لم يتوقف.
كما قامت بقصف البنية التحتية فى عدد من المناطق بطهران العاصمة لخلق حالة من الأزمة.
كما كان للمواجهات السيبرانية مكان واضح بين الجانبين خلال العمليات، وسبقها العديد من العمليات مثل فيروس STUXNET والذي عمل على تعطيل أجهزة تخصيب اليورانيوم عام 2020.
(2)
رغم الأصوات التي تنادي بضرورة وقف الحرب بين طهران وتل أبيب إلا أن مسرح العمليات يزداد سخونة يومًا بعد آخر مُنذرًا بطول أمد تلك الحرب، فى ظل تركيز الهجمات الصاروخية الإيرانية على مواقع محددة، وإعلان إسرائيل على استمرار عملياتها الجوية كاشفة عن قيامها باستخدام طائرات التزود بالوقود من أجل استمرار العمليات والتي قامت بـ 600 عملية تزود بالوقود منذ بدء الهجمات على إيران فى 13 يونيو الجاري قامت به طائرات السرب 120 الإسرائيلي.
لكن يبقى علينا فى ظل استمرار تلك العمليات أن نُلقي نظرة على الأوضاع العسكرية والعملياتية والقدرات لدى الدولتين بحسب جلوبال فاير بور (global fire power) والذي جاءت فيه إسرائيل فى الترتيب 16 وإيران فى المرتبة 17 لكن بنظرة فاحصة للمقارنة بين الجانبين يتبين التالي وفق عناصر المقارنة المحددة.
نجد أن إيران تتفوق على إسرائيل فى القوة العاملة وقوة الأرض والقوة البحرية والموارد الطبيعية والشئون المالية والخدمات اللوجستية، فى حين تتفوق تل أبيب على طهران فى القوة الجوية والجغرافيا.
ففي الوقت الذي تمتلك فيه إسرائيل قوة جوية ذات قدرات قتالية عالية من الطائرات الهجومية F 15 ، F16 ، F35 بالإضافة لطائرات النقل، وطائرات بدون طيار، وهو الذراع الطولى لإسرائيل، إلا أن إيران أيضًا تمتلك تفوقًا بحريًا كبيرًا على إسرائيل وقوة صاروخية هائلة تُحدث حالة من التوازن مع القوة الجوية الإسرائيلية، الأمر الذي جعل العمليات الحالية بين الجانبين أشبه بعمليات كرة الطاولة (البينج بونج)، فى ظل إعلان إيران امتلاكها لأكثر من 20 ألف صاروخ ما بين قصير ومتوسط وطويل المدى من الصواريخ التقليدية والباليستية والفرط صوتية، حيث تحتل المرتبة الثالثة على مستوى العالم فى أسطول مركبات إطلاق الصواريخ المتعددة ذاتية الدفع، كما تتفوق إيران فى الموارد الطبيعية على إسرائيل خاصة فى النفط والغاز الطبيعي سواء من حيث الإنتاج أو الاحتياطي.
لكن الدولتين تتوازنان فى التصنيع العسكري، الأمر الذي يجعل المواجهة بينهما لا يمكن حسمها طالما أن القوى الدولية الحليفة لكلا الدولتين لم تتدخل فى المعركة حتى الآن بشكل معلن، وإن كانت الولايات المتحدة تشير فى تصريحات رئيسها ووزير دفاعه إلى أنها ستواصل دعمها لإسرائيل ولن تتخلى عنها فى مواجهة إيران.
كما أن إيران تتفوق فى القوة شبه العسكرية والتي تبلغ 220 ألفًا مقابل 35 ألفًا لدى إسرائيل.
هذه القدرات لدى الدولتين فى ظل عدم تماسهما حدوديًا يجعل من حسم المعركة أمرًا ليس بالقريب.
لقد استخدمت خلال هذه المواجهة العديد من الأسلحة فى الحروب الحديثة، مثل الحرب النفسية والتي تمارسها كلا الدولتين فى مواجهة الآخر من خلال الإعلام وهو ما دعا الدولتين لقصف مبانٍ لقنوات تليفزيونية، مثل استهداف إسرائيل لمبنى هيئة الإذاعة والتليفزيون الإيراني كما استهدفت طهران مبنى القناة 12 الإسرائيلية وتوقفت بها الخدمة لعدة ساعات قبل أن تعود مرة أخرى وتضرر المبنى بشكل كبير.
كما كان للسوشيال ميديا لدى الجانبين دور فى حشد التأييد وتوجيه الرسائل للجانب الآخر وخلق حالة من رد الفعل السلبي لدى العدو.
(3)
الاستهداف الإسرائيلي لإيران لم يكن وليد العقد أو العقدين الأخيرين كما يحاول البعض تصوير ذلك، لكنه قديم منذ 1979 عندما أعلنت إيران أن إسرائيل هي العدو الأول لها، فى ذلك الوقت اعتبرت إسرائيل أن طهران هي العدو الاستراتيجي لتل أبيب.
عمدت إيران إلى صناعة مجموعة من الأذرع والوكلاء الإقليميين للوصول إلى الهدف، منها حزب الله، وحماس وميليشيات فى كل من سوريا والعراق، والحوثيين فى اليمن، وحرصت على تمويل تلك الأذرع ومدها بالأسلحة والتدريب والدعم اللوجيستي.
وفشلت إسرائيل فى أول مواجهة مع تلك الأذرع فى عام 2006 خلال المواجهات فى لبنان مع حزب الله، وخرج الحزب من تلك الحرب أكثر قوة وأصبح أحد الفاعلين الرئيسيين فى المشهد اللبناني.
من هنا تبدلت الرؤية الإسرائيلية خاصة فى ظل إعلان طهران عن برنامجها النووي السلمي، فاتخذت إسرائيل ذلك زريعة للقضاء على العدو الاستراتيجي، تحت زعم امتلاك السلاح النووي، وهو نفس الأمر الذي تم مع العراق لكن المشهد هنا مختلف.
استخدمت إسرائيل عدة أدوات بالتوازي، شملت إطلاق العملاء (الجواسيس)، الحرب السيبرانية والتي تفوقت فيها إسرائيل على إيران.
كما عملت على دعم الانقسامات وإعادة إحياء نشاط بعض العناصر الخارجية لاستخدامها فى إسقاط النظام الإيراني الحالي.
عمدت إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 القضاء على أذرع إيران ووكلائها الإقليميين أو على الأقل إخراجها من المواجهة، الأمر الذي سهّل عليها العمل فى جبهة واحدة الآن، وليس كما تزعم أنها تعمل على 7 جبهات بالتوازي.
أما الجانب الإيراني فلم يتحرك سريعًا خاصة بعد استهداف أذرعه الخارجية ووكلائه، بل لم يعد ترتيب أوراقه من الداخل خاصة بعد اغتيال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي واعتراف إسرائيل بارتكابها تلك الجريمة، ثم اغتيال إسماعيل هنية الذي كان يشارك فى حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد قبل عام تقريبًا من الآن، وسبقه بأربع سنوات استهداف قاسم سليماني من خلال عملية قامت بها القوات الأمريكية بالعراق أطلقت عليها البرق الأزرق.
ثم عملية البيجر الشهيرة ضد قيادات حزب الله، كل تلك العمليات كانت تستوجب على إيران إعادة فحص الملفات وترتيب الأوراق، لكن ذلك لم يحدث على ما يبدو إلا بعد هجوم 13 يونيو الجاري، فأعيد فحص الأوراق وكشفت العديد من العملاء العاملين لصالح الموساد وألقي القبض على عدد منهم، كما اتخذت عدة إجراءات لمواجهة الاختراق الإلكتروني، وعمليات التتبع للعناصر واستهدافها من قبل إسرائيل.
كما تم اعتقال 18 عميلاً يعملون لصالح إسرائيل كانوا يعملون على تصنيع مسيّرات هجومية وتجسسية فى مدينة مشهد شمال شرق إيران، جميعهم أجانب وتم القبض عليهم قبل قيامهم بتنفيذ عملياتهم.
لكن الحرب الدائرة الآن لن تنتهي معاركها قريبًا بمنتصر ومهزوم بل ستظل مستمرة فى طحن العظام دون إعلان منتصر.
فالولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من الدول الغربية لن تقبل بهزيمة إسرائيل، كما أنه من الصعب القضاء على إيران أو إسقاط النظام فيه والدفع بعناصر خارجية لقيادة الدولة كما حدث فى العراق عام 2003، فالمشهد الإيراني أكثر تعقيدًا والدولة رغم الحصار الاقتصادي المفروض عليها لا تزال لديها القدرة على المواجهة.
كما أن المعسكر الشرقي لن يسمح بخروج إيران من تلك المعركة مهزومة كما تود إسرائيل، فروسيا والصين تعملان على ألا تسقط إيران فى تلك المعركة.
كما أن تحقيق النصر يكون بتحقيق الهدف الاستراتيجي للمعركة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
لكن على العالم أن يفيق هو الآخر ويدرك أن المنظمات الدولية أصبحت هي والعدم سواء، فلابد من عملية إصلاح حقيقي تتوافق مع الواقع الحالي لا مع ما حدث عقب الحرب العالمية.
لابد من إصلاح للأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس حقوق الإنسان.