https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-5059544888338696

رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

«الأقليات الدينية» وأزمة دستور سوريا الجديد

393

عمرو فاروق

على مدار تاريخها الحديث، شهدت سوريا تغييرات دستورية متكررة ارتبطت بالأحداث السياسية والتحولات العميقة التى أثرت على نظام الحكم وشكل الدولة. وقد جاء الإعلان الدستورى الذى وقعه مؤخرًا الرئيس الإنتقالى السورى أحمد الشرع ليرسم ملامح فلسفة الفترة الانتقالية المؤقتة، والقواعد القانونية التى يتبناها نظام الحكم، تمهيدا لتحديد شكل الدولة وهويتها، ونظامها السياسي، ومحددات طبيعة العلاقة بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، واختصاصات السلطة العامة فى إطار بناء سوريا الجديدة.

فمع الإطاحة بنظام بشار الأسد، تواجه سوريا اليوم تحولات جذرية نتيجة عقد من النزاع المسلح الذى خلّف دمارًا واسعًا وتهجيرًا جماعيًا وتغيرات اجتماعية عميقة وتغيرات بالتركيبة المجتمعية السورية.

هذا الواقع يفرض وضع دستور سورى جديد يشكّل الأساس لبناء دولة حديثة قائمة على مبادئ الديمقراطية والعدالة واحترام حقوق جميع المواطنين، آخذًا بعين الاعتبار تنوع المجتمع السورى وترسيخ قيم العيش المشترك بما يحقق تطلعات الشعب نحو الحرية والعدالة والمساواة.

لا شك فى أن الإعلان الدستورى أثار جدلًا كبيرًا فى ظل بقاء الكينونة الدينية محوراً فى أركانه، لا سيما فيما يخص قصر «دين رئيس الدولة على الإسلام»، مخالفًا بنده السادس الذى نص على أنه «لكل المواطنين نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات»، ومن ثم يمثل حرماناً للكثير من السوريين المنتمين للطوائف الدينية الأخرى، خاصة أن رئيس الدولة يحكم بوصفه موظفاً خاضعاً للمراقبة والمحاسبة، وليس بوصف انتمائه العقائدى والديني.

 فضلاً عن أن الاعتماد على اعتبار «الفقه الإسلامي» المصدر الرئيسى للتشريع، وليس الشريعة ومبادئها، يمنح القائمين على السلطة فى سوريا تأويل القضايا وفق ما يتوافق مع مرجعيتها الفكرية (الأسس الفقهية والفكرية السائدة والتقليدية لجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام)، وتقديم الأحكام المستنبطة على يد فقهاء العصور السابقة بما يتلاءم أو يخدم مصلحة السلطة المطلقة، وليس الإطار العام للدولة الوطنية المدنية دون النظر إلى تفسيرات مقاصد الشريعة ذاتها، كبديل عن مصطلح «الأحكام الفقهية»، للتأكيد على الجانب الحيوى العابر للمجتمعات من الإرث الثقافى الإسلامى فى ظل تنوع المكون السوري، مع عدم وجود ضمانات حقيقية وكافية لمختلف أبناء الأقليات الدينية من المسيحيين والدروز والإسماعيليين، فى ممارسة حقوقهم وشعائرهم خاصة بعد واقعة الاعتداء على منتسبى الطائفة العلوية فى منطقة الساحل.

كما حدد الإعلان الدستورى مدة المرحلة الانتقالية فى سوريا بخمس سنوات، ونصّ على «الفصل المطلق» بين السلطات، وأكد على جملة من الحقوق والحريات الأساسية، بينها حرية الرأى والتعبير، وحق المرأة فى المشاركة السياسية، ولكن بمجرد التصديق على الإعلان الدستوري، أطلق مجلس سوريا الديمقراطية، الذى يمثل المظلة السياسية لقوات «قسد»، بيانًا انتقد فيه الإعلان ورفضه، وذلك بعد أيام قليلة من توقيع اتفاق يقضى باندماجها ضمن مؤسسات الدولة السورية، مع التأكيد على وحدة أراضى سوريا ورفض تقسيمها.

وقال مجلس «قسد»، إن هذا الإعلان «يكرّس لحكم مركزى ويمنح السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة». كما طالب بإعادة صياغة الإعلان بما يضمن توزيع السلطة بشكل عادل، ويضمن حرية العمل السياسي، والاعتراف بحقوق جميع المكونات السورية، واعتماد نظام حكم لامركزى ديمقراطي، مع وضع آليات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية.

إن جدالية الحاضرة الدينية فى الإطار الدستورى السورى قديمة، وستظل محل اختلاف كبير فى ظل هيمنة تيار أصولى متشدد على مقاليد السلطة مرتدياً العباءة السياسية لتحقيق المزيد من السيطرة والمغالبة وليس من قبيل بناء دولة وطنية محددة الملامح القومية.

ربما يقل الاختلاف حول تحديد «هوية الدولة» وطابعها الاعتقادى والثقافى نزولاً على توافق الغالبية العظمى للشعب السورى فى النطاق الدستوري، مقارنة بالإصرار على تحديد «ديانة رئيس الدولة» باعتباره موظفًا عامًا فى إطار النظام المدني، مشمولًا بصلاحيات تطبيق الاستحقاقات القانونية والسياسية محليًا وعالميًا.

لقد أرجعت غالبية الدساتير العربية  هوية الدولة إلى الشريعة الإسلامية، باستثناء الدساتير السورية تاريخيًا، والتى اشترطت جميعها أن يكون الإسلام «دين رئيس الدولة»، ابتداءً من دستور 1920 ، التى تمت صياغته من قبل لجنة مُختصّة تحت الانتداب الفرنسي، وتم إقراره من قبل البرلمان، وجاءت مادته الأولى: «حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق، ودين ملكها الإسلام»، دون أن يجعل الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامى مصدرًا أو أحد مصادر التشريع، خروجاً من جدالية الاعتراض على أنها «دولة إسلامية» فى مقابل أنها «دولة لا دينية»، ونزولًا على التفسير والتأصيل الشرعى وليس السياسى للشيخ رشيد رضا رئيس البرلمان حينها، من أن «دولة لا دينية»، سترسخ لمفاهيم أنها «حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا بحرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها».

 بينما برزت سمات الدين فى دستور 1950، والذى أقر فى مقدمته: «ولما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام، فإن الدولة تعلن تمسكها بالإسلام ومُثله العليا»، وجاء فى مادته الثالثة أن «دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامى هو المصدر الأساسى للتشريع».

وهو الدستور الذى لعب فيه المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين مصطفى السباعى دورًا فى صياغته بحكم عضويته فى الجمعية التأسيسية، و قد جاء اقتراحه لتهدئة الخلاف الدائر حينها باستبدال عبارة «الإسلام دين الدولة»، بأن «الإسلام دين رئيس الدولة»، قفزاً على المشهد ومنعًا من وصول أى من أبناء الأقليات الأخرى لمنصب رئيس الدولة، وليس خروجًا من الأزمة، لاسيما أن الإسلام تلقائيًا دينًا للدولة بحكم الأغلبية المسلمة، ما يوضح حقيقة دعوات جماعة الإخوان خلال المرحلة الماضية ومطالبتها باعتماده دستورًا للمرحلة الانتقالية المؤقتة.

ستلعب فقرة «المرجعية الفقهية»، وفقرة «ديانة الرئيس» دورًا محوريًا فى تفاقم ثنائية الدين والدولة، فى ظل منح الرئيس صلاحيات  واسعة دستوريًا إلى جانب سيطرته على السلطات التنفيذية للدولة خلال المرحلة الانتقالية، ما يعزز تزايد هيمنة النظام السياسى الحاكم، وفرض سطوته أيديولوجيًا، لاسيما أن الأجندة السياسية للسيد أحمد الشرع لم ولن تنفصل عن الأجندة الفكرية لـ»أبو محمد الجولاني» ومشروع «هيئة تحرير الشام» رغم العباءة السياسية الفضفاضة التى يلتحف بها حاليًا.

إن سجال الدين وعلاقته بالدولة فى النطاق السورى محاط بالحذر فى ظل استمرار توظيف التابوهات الدينية فى الصراع السياسي، وعدم وجود توافقات فوق دستورية تؤسس لصياغة دستور يضمن تحقيق سياسات عامة غير تمييزية، مع التخوف من التلاعب وتحريف مضامين «النص الدستوري»، اعتماداً على ثغراته فى محاولة لتبديد مصالح وحقوق بقية المكونات الدينية، عبر ديباجة «حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يخل ذلك بالنظام العام»، و «الطوائف الدينية مصونة ومرعية».

وعلى الرغم من أهمية الدستور، ودوره فى وضع إطار للسياسات العامة؛ فإن أخذ التجربة السورية بالاعتبار يتطلب أن يكون التركيز الرئيسى على ضمان انضباط السياسيات العامة بالمواد الدستورية، لمنع استمرار الصراع والاحتقان الطائفي، خاصة أن التكريس الدينى فى عملية صياغة الدستور تطيح بحقوق الأقليات فى إطار تحويل عباراته لسيف مسلط دستورياً على رقاب أبناء الطوائف الدينية، ما يدفع بهم لا محالة إلى نفق «التمرد» على السلطة الحاكمة، أو الانعزالية بعيدًا عن مآربها وهيمنتها، ومن ثم تعزيز الانقسامات وتفكيك الجبهة الداخلية وإعاقة الدمج الوطنى مستقبلاً.

من الضرورى أن يعكس الدستور السورى الجديد التنوع السورى الغني، خاصة أن التعددية الثقافية والإثنية فى سوريا هى أحد أهم أسس الهوية الوطنية السورية، بحيث تضمن اعترافًا واحترامًا بجميع المكونات الاجتماعية والإثنية، ما يكرّس حق المجتمعات المختلفة فى الحفاظ على هوياتها الثقافية واللغوية.

مع ضرورة أن يعكس الدستور قيم المساواة التامة والعيش المشترك بين كل المكونات بما فى ذلك ضمان تمثيلها فى المناهج التعليمية وفى الفضاء العام، وأن يحمى الإرث الثقافى والتاريخى لكل سوريا، باعتباره عنصرا يجمع بين الماضى والحاضر ويساهم فى بناء مستقبل مشترك.

كما يجب أن لا يغفل الدستور الجديد مبدأ المساواة الكاملة بين السوريين فى تولى المناصب والمسؤوليات فى الدولة دون أى شكل من أشكال التمييز، مع التأكيد على حماية حقوق المرأة بشكل واضح ومباشر ولا لبس فيه، بما يضمن المساواة الكاملة والتامّة بين الرجال والنساء فى جميع المجالات، وفرص العمل والتعليم، والتمثيل السياسي، وتمكين المرأة كجزء لا يتجزأ من إعادة بناء المجتمع.